هل يمكن أن تنقرض الصحافة؟
الإعلام يخسر مستقبله باستمرار
فكرة «الخبر» تتآكل. كان الهدف أصلاً «الإعلام»، لكنه أصبح في المقام الأول يتعلق بـ«الترفيه».
5.3.24
رشاد عبد القادر
التهديدات الوجودية التي تواجهها الصحافة، تفوق ما قد يتسع له فيلم رعب ذي ميزانية كبيرة. حقاً، لطالما كان الأمر كذلك.
سألني صديق وصحافي سابق: متى ستجد عملاً لتعيدني إلى الصحافة؟ شاءت ظروف أشبه بالسينمائية أن تدفعه خارج المجال، فلم يستسلم لمصير بدا محتوماً، وهو في عزّ الشباب. استخرج شهادة سواقة، ثم مع الكثير من التدريب والوقت بدأ العمل بسيارات «أوبر»، وفي أثناء كل ذلك، بساعات نوم قليلة، كان يتابع دورات في البرمجة إلى أن وجد طريقه مجدداً، وعثر على عمل مستقر يكفل له بناء أسرة. لكنه لم يفعل. لا يزال هاجس الصحافة يأتيه بين الحين والآخر. بيده حق، كانت السنوات الأولى للإعلام الرقمي، ممتعة فعلاً، فقد بدا الإنترنت كلعبة بين أيادي «الصحافيين» الجدد، من دون ضغوط المال أو الإعلانات أو التجارة. لم يعتقد المدوّنون الأوائل أنهم سيجنون المال مما كانوا يقومون به، ولم يرتدوا لباس الصحافة التقليدي. كانوا أحراراً، يستمتعون بالتجربة، وقد اكتشفوا حديثاً «دودة» الصحافة التي لا تُقاوَم. ثم بدأت المؤسسات الإعلامية بتوظيفهم، مركّزة على النمو والقراءات «Pageviews»، على اعتبار أن «الأرباح» ستأتي فيما بعد، ما مدد بعمر «براءة» الصحافة الرقمية الأولى عشر سنوات أخرى، ثم بدأت تنهار لأسباب عديدة، أبرزها الرهان الخاطئ على ربحية الأخبار والشبكات الاجتماعية.
قلت لصديقي: لو تسنى لي يوماً ما أن أوظفه، لَمَا فعلت. ما كانت الصحافة في شك من أمرها كما هي الآن. فالإعلانات نادرة؛ و«الترافيك» الذي كان يأتي من محركات البحث والشبكات الاجتماعية في تدهور مستمر؛ و«القراء» المفترضون يتجنبون الأخبار ومرهقين، وعلاقة الصحافة بالجمهور تمر بإعادة تفكير جذرية.
تتبع تقرير(1) أكثر من 2181 حالة طرد للصحافيين في 2024 في أمريكا وحدها. «إن بي سي»، «فوكس ميديا»، «ڤايس نيوز»، «بيزنيس إنسايدر»، «سبوتيفاي»، «ذا سكيم»، «فيفتي ثيرتي أيت»، «ذا أثليتيك»، «ذا إنترسبت»، Law360المختص بالصحافة القانونية، «كونديه ناست» (التي تدير ذا نيويوركر)، جميعها سرحت صحافيين بأعداد كبيرة. «واشنطن بوست» التي خسرت نحو مئة مليون دولار العام الماضي، عرضت على مئتي صحافي تسوية مقابل ترك العمل. «لوس أنجلوس تايمز» سرحت أكثر من 115 صحافياً. أُغلق موقع «بيتش فوركس» المختص بصحافة الموسيقى. «وول ستريت جورنال» نفضت مكتبها في واشنطن، وطردت أكثر من 20 صحافياً، وقبل ذلك بأشهر طردت 15 من المحررين الأساسيين. «سبورت إلوستريتر» التي طاردتها فضيحة نشر قصص أنتجها الذكاء الاصطناعي دون الإشارة إلى ذلك، أنهت عمل معظم صحافييها. ومجلة «التايم» سرّحت 15٪ من العاملين المسجلين في النقابة. أقال «ناوذيس» الموجه للشباب، نصف موظفيه. Engadget الذي يتابع أخبار الطرد، تخلص من كبار محرريه وصحافييه. أنا أيضاً، بعد 10 أعوام من الاشتراك في «نيويورك تايمز»، ألغيته هذا السنة، ليس بسبب تكلفته، إذ إن رسم الاشتراك زهيد (2$ في الشهر)، بل احتجاجاً على الموقع الذي أبدأ به صباحي. ففي السنوات الأخيرة بدأ يتراجع عدد المواد التي كنت أجدها تستحق عناء القراءة.
كتابة نيويورك تايمز ممتازة، بلا شك. الحق، لم يكن للصحافة أبداً عمق وتأثير وجودة أكثر مما هي عليه الآن. ثمة الكثير من «الصحافة الجيدة»، بحيث كان من الصعب قبل سنوات تخيل جيل يستمتع بالبودكاستات الطويلة التي قد تمتد أحياناً لأكثر عن 4 ساعات، وتحقق ملايين المشاهدات، على غرار بودكاست «فنجان» الذي ينتجه موقع «ثمانية». حتى المنصات العملاقة مثل جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها، كانت تغير خوارزمياتها، وتعيد ضبطها لتدفع الناشرين إلى إنتاج محتوى ذي جودة عالية، ليس لأنها تهتم بالصحافة، إنما كي تجذب المستخدمين لقضاء وقت أكثر على منصاتها. مشكلة الصحافة عالمياً ليست في الجودة.
المشكلة أن فكرة «الخبر» تتآكل(2). كان الهدف أصلاً «الإعلام»، لكنه أصبح في المقام الأول يتعلق بـ«الترفيه». لعلك تتذكر «الترفيه» الذي وصلت إليه السياسة في أعلى مستوياتها إبان فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. الآن يتحول الأمر على نحو متزايد إلى «اللهو»، لدرجة أن مجلة «تايم» الأمريكية اختارت المغنية تايلور سويفت شخصية العام، وهي المرة الأولى التي تختار فيها شخصاً من صناعة الترفيه. عندما بدأ التسويق يعتمد مالياً على الاشتراكات لا الإعلانات، حوّل تركيزه من «الحقيقة» في الصحافة إلى الصحافة بحد ذاتها. هكذا أصبح التحول الرقمي يعني «إسعاد» المشتركين. وهذا ما بدأت نيويورك تايمز فعله بالسنوات الأخيرة سعياً لكسب المزيد من المشتركين عالمياً، فزادت جرعة ما يندرج تحت بند «معلومات عامة» للترفيه واللهو، وقلت عدد المواد التي كنت أجدها تثري المجتمع والصالح العام. قال الناقد والصحافي أ. ج. ليبلينغ يوماً إن «وظيفة الصحافة في المجتمع هي الإعلام، ودورها هو كسب المال. وكلما زاد التركيز على الأخير، قل الاهتمام بالأول.» ما كان دور الصحافة يتعلق يوماً بجعل الناس سعداء. ولا ينبغي لها أن تنافس «تيك توك» على وظيفتها في إلهاء الناس عن متاعبهم اليومية؛ بل ينبغي لها أن تساعدهم على خوض غمارها. ولم أجد اختراعاً مهماً قدمته البشرية قد غيرّ من وظيفته مثلما تفعل الصحافة الآن. خذْ مثلاً «الدولاب»، لا تزال وظيفته هي هي رغم تعدد صفاته واستخداماته، أو «سمّاعة» الطبيب التي أصبحت إكسسواراً أكثر من كونها أداة للتشخيص، لكن الوظيفة استمرت؛ فـ«الرنين المغناطيسي» لا يزال وظيفته معرفة ما يجري داخل جسم المريض. هذا لا يعني بأي حال أن الصحافة لا ينبغي لها الترفيه، بل عليها أن تقدمه ضمن حزمة يشكل «الإعلام» عمودها الفقري.
نيويورك تايمز تدرك ذلك. لكنها كمؤسسة تدير نحو 1700 صحافي، وتصرف نحو 83 مليون دولار شهرياً، تحتاج أن تقلق باستمرار بشأن الدخل؛ فقبل 15 سنة فقط، اضطرت أن تستدين من الملياردير المكسيكي كارلوس سليم 250 مليون دولار لتغطية نفقاتها في التحول الرقمي. وتدرك أيضاً أن الشبكات الاجتماعية قد غمرت الجميع بالمعلومات، والجميع يحسب نفسه صحفياً، ولديه رأي، ويظن أنه يمتلك «الحقيقة»، حتى إنَّ بعض المحللين في مجال الإعلام بدؤوا الحديث عن ملامح انقراض محتمل للصحافة في المستقبل المرئي.
انهيار الوسط
القوى التي يشير إليها(3) ماثيو جولدستاين Matthew Goldstein، كعوامل رئيسية في «الانقراض» القادم، معروفة عملياً: قرّاء مرهقون من الأخبار News Fatigue، خوارزميات الشبكات الاجتماعية التي تقلل فرص ظهور الأخبار. والآن البحث المدمج بالذكاء الاصطناعي على جوجل، الذي يجيب على الاستفسارات مباشرة بدلاً من الإحالة إلى روابط خارجية. ما يعني أن المواقع التي تعتمد على الوصول العضوي Organic Traffic، وتصل نسبته عالمياً إلى 40% من مجموع الترافيك، ستجد نفسها في ورطة كبيرة قريباً. المؤسسات التي استثمرت في مواقعها الإلكترونية ولديها جمهور موالٍ مثل نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، وبي بي سي.. إلخ، ستتأثر بدرجة أقل، وستصمد على الأرجح في وجه الانقراض المحتمل.
ما يحدث هو أن «الوسط» في الصحافة ينهار. عالمياً، لا تزال هنالك فرصة في القمة؛ فنيويورك تايمز مثلاً، تواجه تحديات حقيقية؛ لكن قدرتها في الوصول إلى جمهور عالمي تفتح آفاقاً للنمو. وفي الأسفل ثمة فرصة أيضاً؛ تجد مثلاً الكثير من المؤلفين المستقلين يجنون أموالاً كافية(4) عبر موقع Substack مثل The Ankler، على ظهر ما لا يتجاوز 5 آلاف مشترك في نشراتهم البريدية. هذا هو الوضع الحالي للإعلام كما يقول(5) الصحافي عزرا كلاين Ezra Klein: يمكنك الازدهار كونك صغيراً جداً أو كبيراً جداً، ولكن من الصعب البقاء على قيد الحياة بين هذين القطبين. هذا بحد ذاته كارثة للصحافة. ومن ثَمَّ للقراء أيضاً. فـ«الوسط» هو المكان الذي يتوالد فيه الصحافيون المميزون؛ المكان الذي تُصنع فيه الثقافة. لكنه الآن يدفع ضريبة الانتقال من صحافة الإنترنت القائمة على «اختيارات المحرر» إلى الصحافة القائمة على ما تقترحه الخوارزميات.
في السنوات الـ15 الأخيرة، واصلت صحافة «الوسط» مطاردة القراءات (أو الزيارات)، وكان «باز فيد» BuzzFeed، أبرز المواقع التي حددت معالم هذا الاتجاه، بنشر محتوى «فايرال» تغذّيه خوارزميات الشبكات الاجتماعية، إلى أن وصل إلى ذروته مع قصة «لون الفستان» التي حققت 35 مليون زيارة خلال ساعات. ومن بعدها بدأ كل شيء يتغير نحو الأسوأ. الحق، بدأ الأمر مع جونا بريتي Jonah Peretti، الفتى الذي كان يعاني «عُسر القراءة»، تنقله أمه من مدرسة إلى أخرى، بسبب مشاكله، والذي اشتهر عام 2001 عندما نشر إيميلات تبادَلها مع شركة «نايكي» بشأن حذاء رياضي. وأصبح همه منذ ذلك الحين اكتشاف الكيفية التي يتحول بها محتوى ما إلى «فايرال». أجرى في البداية بعض التجارب في «هافينغتون بوست»، الموقع الذي أطلقه كشريك مؤسس مع أريانا هافينغتون، إلا أن الأخيرة لم تكن راضية عن نشر محتوى «سخيف» يُسيء إلى سمعة الموقع الذي كان يساند باراك أوباما في ذروة صعوده إلى الرئاسة. بريتي لم يكن سخيفاً. كان في الواقع أحد ألمع العقول التي شكلت صحافة «الوسط» في العشرين السنة الأخيرة ومعها الإنترنت. لجأ بريتي إلى إنشاء صفحة أسماها «باز فيد» ليجري عليها تجاربه قبل نقلها إلى هافينغتون بوست. هكذا بدأت قصة محتوى الفايرال وموقع «باز فيد» الذي تنازل عملياً عن دور «التوزيع» لصالح شركات التكنولوجيا الخارجية (فيسبوك، تويتر، يوتيوب). ومع تزايد أعداد الزيارات التي أتقنها الموقع، فقدت قيمتها بالمعدل ذاته، ما سرّع في انهيار صناعة «الفايرال» كما كتب بن سميث في كتابه الأخير Traffic(6)، وكان المستفيد فيسبوك وجوجل. الصحافة لم تستفد، ولم يستفد بريتي.
لم يكن بريتي يوماً مهتماً بالمال. كان صاحب رؤية ويحب المراهنات. عرضت عليه والت ديزني 650 مليون دولار عام 2013 لشراء «باز فيد». بريتي كان متردداً. ركع رئيس «باز فيد» حينئذ جون ستاينبرغ على ركبتيه يترجاه بقبول العرض المغري. لكنه أخيراً رفض لأن مديري ديزني لم يأخذوا الكلمة التي ألقاها فيهم على محمل الجد. انتصر لرؤيته على حساب مصالحه المادية.
توالت الضربات التي تلقاها بريتي الذي لا يزال يملك هافينغتون بوست. وفي أبريل 2023، أغلق قسم الأخبار في «باز فيد» الحائز على جائزة بوليتزر قبل ذلك بعامين فقط. هذا القسم كان هدفه أصلاً خلق توازن للمحتوى الأخف في الموقع. ونشر مذكرة يشرح فيها رؤيته(7) لما هو قادم، قائلاً إن إقبال الناس على الشبكات الاجتماعية سيستمر لأنها توفر ملاذاً للهو. لكن هؤلاء الناس أنفسهم يميزون أيضاً الجِدّ من اللهو، وبدؤوا يكتشفون مجدداً أهمية «اختيارات المحرر» وعبث الاعتماد على ما تقترحه الخوارزميات لدى استهلاك الأخبار، وبدؤوا يعودون إلى الصفحات الرئيسية لمواقع الأخبار القوية ذات المصداقية. والفكرة القائلة إن الصحافة يجب أن تذهب إلى حيث يوجد الناس، ستفقد شعبيتها تدريجياً، ذلك أن الناس ببساطة لا يريدون أن تعكر الأخبار صفو ملاذ الشبكات الاجتماعية التي يلجؤون إليه للترويح عن أنفسهم. يريدون أن يقرروا بأنفسهم الوقت الذي يستهلكون فيه الأخبار ومكانه، لا أن يُفرض عليهم بقرار.
المواقع الكبرى مثل واشنطن بوست، وول ستريت جورنال، ونيويورك تايمز، لم تنجرّ إلى موجة الشبكات الاجتماعية منذ البدايات، ولم تأخذها على محمل الجد. لم يكن ذلك لمعارف كانت تمتلكها، إنما لسوء تقدير للقوة الهائلة التي ستجمعها هذه المنصات بالسيطرة على تدفق الترافيك والتفاعل في العالم الرقمي. كانت المؤسسات الصحافية الكبرى تعلم أنه في أثناء التحولات العملاقة على المرء دائماً أن يطرح الأسئلة، وأن يشك في الإجابات، وألا يؤمن بالحلول السحرية. غريزة البيزنس أنقذتها، بالتركيز على مواقعها الإلكترونية وعدم الاستسلام إلى توكيل مهام توزيع محتواها لشركات التكنولوجيا العملاقة؛ وإن تعاملت معها، فوفق شراكة مهنية بمعايير واضحة. هذا لا يعني بأي حال أن الشبكات الاجتماعية باتت خارج مجال اهتمام الصحافة، بل يمكن البناء عليها بالتركيز على تقديم الترفيه بما لا تقتضيه الحكمة التي تتطلبها استهلاك الأخبار.
ما بدا جديداً قبل عقد من الآن، أصبح لا معنى له أمام التحديات التي يواجهها مستهلك الأخبار. فهو يريد معلومات موثوقة يمكن الاعتماد عليها لم تعد توفرها الشبكات الاجتماعية، ويتطلع إلى تعدد الزوايا للنظر في قضية ما، وأن مصدراً واحداً أوحد لم يعد قادراً على فعل ذلك. وقد ولّت منذ زمن بعيد تلك الأيام التي كانت تنشر فيها 300 صحيفة في وقت واحد(8) مقالاً للصحافي الأسطورة إيرني بايل الذي وجد نفسه يرمي ثلاثة مواد كتبها في سلة المهملات رهبة من الملايين الذين كانوا ينتظرون مقالاته، فالتقط صديق له إحداها، وكانت قصة «مقتل الكابتن واسكو» التي أصبحت أحد أروع المقالات التي كُتبت عن الحرب العالمية الثانية وأحد أكثرها إثارة للمشاعر في التاريخ. فأنت تشعر بأنك أمام مشهد سينمائي، أكثر من أنك تقرأ مقالاً صحافياً.
انهيار «ذا مسنجر»
نعم، كان ذلك حقاً منذ زمن بعيد لا يكاد يعرفه مستهلكو الأخبار الحاليين. لكن جيمي فينكلستاين، المستثمر الإعلامي المخضرم، الذي يبلغ من العمر 75 عاماً، أراد أن يعود إلى الأيام الخوالي عندما كانت العائلة تجتمع حول شاشة التلفزيون لتتابع معاً برنامج «60 دقيقة». فأطلق بداية العام الماضي موقع «ذا مسنجر» الذي دار حوله الكثير من التهويل، بأنه سيعيد تلك الأيام بغرفة أخبار ستصل إلى 550 صحافياً وزيارات تصل إلى 100 مليون شهري، وأن الإعلام القائم قد ضلّ الطريق، وتخلى عن مسؤوليته، وبات غير متوازن، متحيز، ينشر معلومات مضللة، وأن «ذا مسنجر» سيعيد الأمور إلى نصابها. لكن ذلك لم يحدث. وأُغلق الموقع نهائياً بعد 8 أشهر من إطلاقه. فالمشاريع الإخبارية الرقمية الجديدة عليها اختيار مسار معين للتركيز عليه، إذ لم يعد اختيار جميع المسارات ممكنًا إلا في المواقع الكبرى. لقد انتهى زمن الربح من تدفق الزيارات منذ فترة طويلة، حيث لم تعد المنصات الرقمية المسؤولة عن التوزيع تجلب الزيارات كما كانت تفعل في السابق. ثم إنَّ استراتيجية الركض وراء الزيارات أدت إلى الاعتماد على التقارير التجميعية ما جعلها رخيصة؛ وعمليات النسخ واللصق أساءت للمحتوى الأصلي للموقع، هذا إن وجد أصلاً. ونتيجة لكل ذلك، لم تعد عائدات الإعلانات قادرة على تغطية تكاليف الإنتاج. والآن، العقد الاجتماعي الذي كان ينظم التعاملات على الويب بدأ هو أيضاً بالانهيار.
انهيار العقد الاجتماعي للويب
لعقود من الزمن، كان هناك ملف يسمى robots. txt يتحكم في سلوك متصفحات الإنترنت. لا يتمتع هذا الملف بأي سند قانوني أو فني(9)، وهو ليس معقداً على نحو خاص. ومع ذلك، حافظ على تنظيم تدفق المعلومات على الإنترنت. وهو بمنزلة مصافحة بين محركات البحث وأصحاب مواقع الويب، بما يدل على الاحترام المتبادل لرغبات بعضهم البعض. ويمكن اعتباره دستوراً صغيراً مكتوباً بكود بسيط ينظم عملية التبادل على الإنترنت.
يسمح هذا الملف لأي شخص يدير موقع ويب، بغض النظر عن حجمه، بإبلاغ الويب بمن يُسمح له بالوصول إليه ومن لا يُسمح له بذلك. ثم إنَّه يحدد محركات البحث المسموح لها بفهرسة الموقع والخوادم التي يمكنها عمل نسخة منه وأرشفته. بالإضافة إلى ذلك، فهو يحدد ما إذا كان بإمكان المنافسين مراقبة موقع الويب. يتخذ المسؤول الفني هذه القرارات، ويبلغها إلى الويب من خلال هذا الملف. مع أنه ليس نظامًا مثالياً، إلا أنه يعمل بفعالية.
لقد كانت الصفقة ناجحة: فهي تسمح لمحرك بحث جوجل بأخذ نسخة من موقعك وفهرستها على خوادمه، حتى يتمكن المحرك من عرض محتوى الموقع في نتائج البحث وتوجيه الترافيك إليه. يمكنك كسب المال عن طريق وضع إعلانات عليه بناءً على عدد ونوعية الزيارات. لكن هذا الدستور الذي يعتمد بالدرجة الأولى على حسن نيات الأطراف المعنية، بدأ بالانهيار.
شركات الذكاء الاصطناعي غيّرت المعادلة: تستخدم هذه الشركات الآن موقعك وبياناته من دون إذنك لبناء مجموعة بيانات ضخمة للتدريب، وإنشاء خدمات أو منتجات قد لا تعترف بوجودك على الإطلاق. فهي لا تعمل على تبادل القيمة كما اعتاد محرك بحث جوجل على فعل ذلك، فلن تحصل على شيء مقابل استخدام بياناتك، ولا حتى الزيارات.
وعلى الرغم من المساءلة التنظيمية والقانونية في بناء وتدريب نماذجها المتعطشة للبيانات، تستمر شركات الذكاء الاصطناعي في التحسن، وتظهر شركات جديدة كل يوم. ويواجه أصحاب مواقع الويب، سواء الكبار أو الصغار، الآن قراراً: إما احتضان ثورة الذكاء الاصطناعي أو مقاومتها. بالنسبة لأولئك الذين يختارون المقاومة والمواجهة، فإن أقوى سلاح لديهم هو القانون الذي وضعه المتفائلون الأوائل للإنترنت قبل ثلاثة عقود. اعتقد هؤلاء أن الويب مليء بالأشخاص الطيبين الذين يريدون، قبل كل شيء، أن يكون الإنترنت مكاناً جيداً للجميع. في ذلك العالم، وعلى ذلك الإنترنت، كان شرح رغباتك في ملف نصي بسيط مكتوب بالكود كافياً كقاعدة تحكم العلاقات. الآن، بينما يقف الذكاء الاصطناعي على حافة إعادة تشكيل ثقافة الإنترنت واقتصاده مرة أخرى، يبدو هذا الملف المتواضع قديماً وبحاجة إلى إعادة نظر شاملة.
الصحافة والذكاء الاصطناعي
يطرح الذكاء الاصطناعي تحديات واضحة على الصحافة، إلا أن الفرص التي قد يتيحها لا تزال أقل وضوحاً. وطالما استمر الناس في الاهتمام بالقصص والتجارب وخبرات الآخرين، سيكون هناك دائماً مكان للصحافة، ولكن ليس لجميع وظائفها. من الواضح أن الذكاء الاصطناعي يشكل تهديداً حقيقياً ربما في المستقبل القريب لوظائف مثل التدقيق اللغوي والتحرير، حتى في اللغة العربية. لكتابة هذا المقال، استخدمت الذكاء الاصطناعي في البحث عن المعلومات، والترجمة والتدقيق اللغوي (الإملائي والنحوي) وإعادة صياغة بعض الجمل بجعلها أبسط وأكثر سلاسة، وتصميم الصورة الرئيسية. وبدون شك سيقضي الذكاء الاصطناعي في مستقبل يمكن رؤيته على الغالبية العظمى من وظائف الكتابة التي تعتمد على التجميع. الجمهور بدوره، سيتوقع محتوى مخصص تفاعلي، ومدمج بالذكاء الاصطناعي، «يشخصن» Personalize الصحافة. فمنذ الآن تقوم Channel1 بالإعداد لقناة إخبارية تُدار بالذكاء الاصطناعي. والكثير مما نعرفه عن الأشكال الصحافية، قد تجد نفسها يوماً ليس ببعيد مضطرة إلى التغيير.
عمر المؤسسات الإعلامية الكبيرة طويل بما فيه الكفاية (نيويورك تايمز وفايننشال تايمز أكثر من 130 عام)، لتدرك ما الذي قد ينطوي عليه فترة الاضطرابات كالتي يحدثها الآن الذكاء الاصطناعي. فقد مرّت هذه المؤسسات بتجارب مماثلة، وتعلمت أنه في الاضطرابات هنالك دائماً منحنى يؤدي إلى نهاية سعيدة: اعتنق التغيير، ابحث عن الفرص، تعرّف على ما قد يجعلك مختلفاً، وابدأ البناء عليه. وتدرك أيضاً أن المسببين في الاضطراب لن يقدموا يد العون.
الاعتناق
فمثلاً استحدثت فايننشال تايمز منذ سنة وظيفة جديدة تحت مسمى «محرر الذكاء الاصطناعي»، وبدأت تبحث من كثب عن الفرص التي تتيحها التقنية الجديدة.
الفرص
ففرصة «الترجمة» مثلاً، التي أحدث الذكاء الاصطناعي قفزة فيها، قد تتيح لهذه المؤسسات الوصول إلى جمهور أوسع بفتح أبواب جديدة للنمو عالمياً.
وعلى الرغم من «هلوسات» الذكاء الاصطناعي، كما قالت(10) رولا خلف، رئيسة تحرير فايننشال تايمز، فإن الأدوات المساعدة التي يقدمها في التحرير والتلخيص والصوت، والبحث والتحليل، ستتيح للصحافيين المزيد من الوقت لإنتاج قصص أصلية، ومن ثَمَّ إضفاء المزيد من «الأنسنة» على الصحيفة.
الاختلاف والبناء عليه: الأنسنة
فقد أدركت هذه المؤسسات أنه في عصر الخوارزميات والـ«بوتات» Bots، سيكون هنالك طلب أكثر على ذاك الدفيء الذي يقدمه الصحافي الإنسان للقارئ. ولتمييز نفسها، جددت صحيفة نيويورك تايمز، على سبيل المثال، بروفايلات صحفييها، وجعلتها مفصلة وشخصية من أجل إضفاء الطابع الإنساني على صحافتها بالضد من «صحافة الآلة».
من غير المستبعد أن يتمكن الذكاء الاصطناعي في المستقبل من إجراء مكالمات هاتفية وبناء العلاقات (مع المصادر مثلاً) وتطويرها، إلا أنه لن يستطيع الخروج إلى الشارع لالتقاط قصص الناس، لذا سيبقى الجزء الأكثر أهمية في سرد أي قصة بشري. القصة كانت دائماً مشروعاً إنسانياً. ولم يكن تطورنا إلى بشر عاقلين إلا نتاجاً جانبياً من نتاجات الطبيعة، لعبت فيه القصة دوراً أساسياً عندما بدأنا بعبادة الطوطم الأول(11).
مع ذلك ثمة قلق(12) من تفكيك النظام البيئي للإعلام. ترى هذه المؤسسات الإعلامية أن شركات التكنولوجيا الكبرى الجديدة مثل OpenAI، تعيد الخطأ ذاته الذي ارتكبته قبلها منصات الشبكات الاجتماعية، وتخفق في القيام بما ينبغي لها أن تقوم به. فهذه الشركات تريد الآن أن تستولي على المحتوى الذي أنتجته المؤسسات الإعلامية على مدار عشرات السنوات، لتدريب محركات (نماذج) الذكاء الاصطناعي عليه دون تقديم تعويضات عن حقوق الملكية؛ كما فعلت الشبكات الاجتماعية بالاستيلاء على الإعلانات التي كانت تدرّ دخلاً على الصحافة، وتجعلها قابلة للاستمرار، ما يعني عملياً انهيار المؤسسات الإعلامية التي هي بمكانة النظام البيئي للذكاء الاصطناعي لتقديم محتوى موثوق للجمهور. هكذا، يستثمر اللاعبون الكبار بسخاء في الذكاء الاصطناعي بينما يتدهور النظام البيئي الذي يدعمه. ما سيخلق المزيد من عدم الفهم والاضطرابات عندما تبدأ المعلومات المضللة بالانتشار.
ويبدو الآن أن عدم الفهم المتبادل(13) منتشر في كل مكان. إحدى أعظم الخدمات التي يمكن أن تقدمها الصحافة للجمهور هي مساعدة الناس على فهم الحقائق وفهم بعضهم البعض. إذا كان هناك أمل في تحويل الخوف والغضب -فقط انظر حولك، إنه في كل مكان- في حوار الناس إلى لباقة ومساحة للبحث عن الحلول، فيجب أن تستمر الصحافة.
حقاً، التهديدات الوجودية التي تواجهها الصحافة، كما قال آ. ج. سولزبرغر، ناشر نيويورك تايمز، تفوق ما قد يتسع له فيلم رعب ذي ميزانية كبيرة. لطالما كان الأمر كذلك.
[1] Malone, Clare Is the Media Prepared for an Extinction-Level Event?, The New Yorker.
[2] Streitfeld, David How the Media Industry Keeps Losing the Future, NYTimes.
[3] Goldstein, Matthew Weathering the Storm of Potential Publisher Extinction, Mondo.
[4] Maher, Bron ‘Miraculous’ Substack-based Ankler Media eyes $10m annual revenue next year, PressGazette.
[5] Klein, Ezra I Am Going to Miss Pitchfork, but That’s Only Half the Problem, NYTimes.
[6] Smith, Ben Traffic: Genius, Rivalry, and Delusion in the Billion-Dollar Race to Go Viral, Penguin Press.
[7] Peretti, Jonah 5 Predictions for the Future of Digital Media, BuzzFeed.
[8] راندال، ديفيد المراسلون العظماء، ترجمة ثائر ديب، العبيكان.
[9] Pierce, David The text file that runs the internet, The Verge.
[10] Khalaf, Roula Letter from the editor on generative AI and the FT, Financial Times.
[11] فيلتشيك، فيفولود الإنسان العاقل نتاج جانبي من نتاجات الطبيعة؟ ترجمة ثائر ديب، مجلة المعرفة.
[12] “Don’t expect help from the disruptors”: The FT’s chief executive on AI, Niemanlab.
[13] Sulzberger, A.G. “Mutual incomprehension now exists seemingly everywhere”, Niemanlab.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020