نعم، لم يكن عادياً
البشر منتجون ومستهلكون مدمنون على القصص
القصة الأجمل، الأكثر إدهاشاً ودرامية هي التي انتصرت دائماً بغض النظر عن الحقيقة.
30.12.21
رشاد عبد القادر
طوّرنا نحن البشر القدرة على خلق القصص والإيمان بها. طوّرناها لأن السرد يستطيع تجاوز «هنا، الآن» من خلال تعريف الأفراد بمواقف تتجاوز تجاربهم اليومية.
معظم اللواتي عايشنه سيحلفن بأغلظ الأيمان أنْ لا عين رأت ولا أذن سمعت بمثله. سيستحضرن «الشيخ جِبِر» من قبره الذي لا يغادره إلا عند الشدائد، تصديقاً على كلامهن. سيتحدثن جهاراً عن شخصيته، حكمته وحصافته، وطلاقة لسانه. ربما سيتجرأن أيضاً على الحديث عن طوله، محياه، وبياض غطاء رأسه.
لكن حينما يختلين بأنفسهن سيتحدثن أكثر عن رقصته؛ فعندما يدخل إلى حلقة الدبكة كان صاحبا «الطبل» و«الزرناية» يعيدان ضبط آلتيهما على حركات جسمه، يهتز من اليمين إلى اليسار، من اليسار إلى اليمين مثل طائر الـ«رفول» يغوي الأنثى إلى عشّه، فيما قدمه تخرج بين الحين والآخر ببطء وبهاء من الشق الأمامي لـ«خفطان» كان يرتديه فوق «جلابيته».
كنّ يَعْلمَن علم اليقين أن الحركات ذاتها يؤديها بالشغف ذاته في السرير؛ حتى إذا أخذته الحماسة، سيبدأ بالركض حول مغويته التي تبقى هناك طريحة الفراش منقطعة النفس، مبهوتة، مربوطة اللسان في حضرة رجل يعوي لقمر مكتمل.
الرجال أيضاً كانوا يفضلون السهر في مجلسه على الإيواء إلى أسرّة نسائهم الباردة في ليالي الشتاء بسهول جبال طوروس أقصى شمال شرق سوريا. يستمعون إلى ما يرويه من سيرة «بني هلال» أو شعر «ساري العبد الله» أو «رستم يه زال» وابنه «زهراب»؛ القصة المفضلة لديه. كان يقول بعدم يقين إن أجداده قدموا من إيران، لأكتشف بعد 50 عاماً من DNA أن 72% من ه كان كردياً/إيرانياً خالصاً، والـ 28% الباقية خليطاً من القوقاز والأرمن والجورجيين بالقرب من بحيرة قزوين، حيث قاتل رستم زال الجني الأبيض (دیو سپید) إلى أن قتله وأخرج كبده وقدمه إلى ملكه كيكاوس ليدهن دمه على عينيه فعاد إليه بصره.
لم يكن أكثر إخوته شجاعة؛ فقد كان له أخ قلبه من حجر. ولم يكن أكثرهم وسامة، فأخوه الآخر كان أرق من نسمة. لكنه كان أكثرهم طلاقة لسان. يعيش على القصص. ينام معها. يأكلها، ويأخذها معه أينما حل.
من أعقد المشكلات التي قد يتذابح عليها الرجال، إلى أبسطها، كان يفكك عقدها بالقصص. حتى الرجال القساة وهُم على شفير ارتكاب الجريمة، كانوا يذوبون بين يديه، يتلوّون، ثم يستسلمون. مرّة أعجبته امرأة، فأقنع الزوج ب أن يطلّقها، ليتزوجها هو.
شهرته وشخصيته كانتا مزيجاً من واقع حاله وخيال قصصه. فلم يكن طويلاً بقدر ما كانت تتخيله النساء من حوله. ولم يكن وسيماً بقدر ما يجعلهن يتوقفن عن الرقص ويستسلمن لمشاهدته. ولم يكن شجاعاً بقدر ما كان يهابه رجال نُزع عن قلوبهم الخوف.
لا أحد يعلم تماماً كيف اهتدى إلى قوة القصص.
لكن المؤكد أننا طوال تاريخنا منذ الزمن الأول عندما كنا نتجمع حول النيران لتبادل القصص، إلى يومنا هذا حيث نشاهد لساعات مسلسلات نتفليكس، كان البشر منتجين ومستهلكين مدمنين للقصص.
لماذا إذاً نقضي كل هذا الوقت في الاستماع إلى القصص وروايتها، وغالباً عن مآثر لم تحدث قطّ؟
فمن وجهة نظر التطور، من الواضح أن هذا الوقت يمكن استغلاله بشكل أفضل في البحث عن الطعام أو ربما التكاثر، أو ببساطة أكثر عدم القيام بشيء لتوفير الطاقة.
هل من الممكن أن ميل البشر إلى سرد القصص مجرد عرض ثانوي لتطورنا نفسياً؛ سلسلة من المدخلات التي تتلاعب وتؤثر في آليتنا المعرفية؟
في مناقشته للموسيقى، يرى عالم النفس المعرفي ستيفن بينكر أنها ممتعة بصورة معقدة يصعب وصفها، ويسميها «تشيز كيك التطور»؛ من الممتع وجودها، لكن لن يبات المرء ليلته جائعاً بدونها. بمعنى آخر، أن الموسيقى حادث عرضي للتطور وأثر جانبي له، وليس لها غرض بيولوجي حقيقي.
لكن نظراً إلى انتشار القصص في كل مكان، ربما كان لها دور يفوق دور الموسيقى في المجتمعات البشرية. هذا ما توصلت إليه دراسة نُشرت في Nature Communications، ومفادها أن رواية القصص تعمل كآلية لنشر المعرفة من خلال بث الأعراف الاجتماعية لتنسيق السلوك الاجتماعي.
المعرفة المقصودة هنا هي الميتا-معرفة meta-Knowledge؛ أي المعلومات حول معارف الآخرين.
فمثلاً، لا يكفي أن تعرف أنه ينبغي لك قيادة السيارة على الجانب الأيمن من الطريق، بل تحتاج أن تعرف أيضاً أن الآخرين يمتلكون المعرفة ذاتها. القصص تعمل على التأكد من أن جميع أفراد مجتمع معين يعرفون «قواعد اللعبة»، ويلتزمونها. فهي تقوم بدور مماثل للأديان من خلال تنظيم السلوك وتعزيز التعاون.
لكن لماذا يقوم الفرد الواحد باستثمار الكثير من الوقت والطاقة ليصبح راوياً ماهراً للقصص؟ لأنهم مثل الأنبياء، ولكن على نطاق ضيق. فقد وجدت الدراسة أن المجتمع لا يكافئ رواة القصص المهرة بمكانة اجتماعية عالية فقط، بل يحظون بمكانة مفضلة لدى الجنس الآخر أيضاً.
طوّرنا نحن البشر القدرة على خلق القصص والإيمان بها. طوّرناها لأن السرد يستطيع تجاوز «هنا، الآن» من خلال تعريف الأفراد بمواقف تتجاوز تجاربهم اليومية. انظر إلى التاريخ: القصة الأجمل، الأكثر إدهاشاً ودرامية هي التي انتصرت دائماً بغض النظر عن الحقيقة. انظر إلى الأديان، إلى السرديات الكبرى، إلى الدول، إلى القوميات والأيديولوجيات، فقد باتت جزءاً لا يتجزأ من تماسك المجتمعات الحديثة واستمرارها. ومن المدهش حقاً أن كل ذلك بدأ بقصة متواضعة سردها أحدهم لمجموعة أفراد قد لا تتجاوز العشرة، جلسوا القرفصاء حول نيران تتقد بفعل الشحم الذائب من لحم فريسة اصطادوها قبل ساعات.
القصة؛ هذا ما نفتقده في صحافتنا. عندما تريد إقناع شخص بتغيير رأيه بشأن أمر ما فإن ما تقوله لا يكون دائماً بنفس أهمية كيف تقوله. نحن البشر من جنس الإنسان العاقل مخلوقات عاطفية غريبة، أكثر إذعاناً لنبرة مقنعة من حقيقة تُقال بلغة جافة. والصحافي الذي يعتقد أن مادته تصبح جاهزة للاستهلاك بكتابة آخر جملة، موهوم. كيف تقدم قصتك هو الأهم.
هل كان والدي يعلم كل ذلك؟ بالتأكيد لا. على الأرجح كان فقط يستشعر قوة القصص.
كان يعلم تماماً أن الخَصمين اللذين يتواجهان في مجلسه يتحاشيان النظر في العيون، وقد وضع كل واحد يده على سلاحه الذي قد يستلّه في أي لحظة ليغرسه في كبد الآخر. كان يعدّل جلسته بسحب جسده شبراً أو شبرين إلى الأمام، ثم يدفع بيده اليمنى العقال فوق رأسه إلى الوراء قليلاً كمَنْ يبحث عن المزيد من الهواء، ويبدأ بقصته. ضيفاه لن ينتظرا طويلاً قبل الوصول إلى تلك اللحظة؛ اللحظة التي تُنار فيها العقول. وتكفي كلمة واحدة، ربما دفعة صغيرة على الكتف ليقوما ويقبّلا الشوارب.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020