نحتاج إلى 3 بالمئة فقط لإحداث التغيير
كيف يستطيع الإعلام إحداث التغيير
القفز من منحنى قبيل انحداره؛ إلى منحنى آخر، يخلق الدفق الذي جعل الحضارة تتقدم باستمرار.
18.6.20
رشاد عبد القادر
عند كل مفترق حضاري، كان هنالك شخص مختلف، يفكر بطريقة مختلفة، ويريد إنجاز شيء مختلف، فيُحدِث التغيير الذي سينحدر في النهاية إلى نقطة الصفر، ولكي يستمر التطور سيحتاج إلى تغيير آخر!
في 20 ديسمبر القادم، سيكون قد مرّ 8 سنوات على فيتشر نشرته نيويورك تايمز تحت عنوان Snow Fall يروي حكاية مجموعة من المتزلجين علقوا تحت انهيار ثلجي في سلسلة جبال كاسكيد غرب الولايات المتحدة، وستكون القصة قد حازت على جائزتي بوليتزر و«بي بادي» Peabody Award عام 2013، وسيكون العنوان قد بات فعلاً معتمداً في قاموس الصحافة الرقمية to snowfall، وسيُكتب الكثير الكثير احتفاءً بها منذ ذلك الوقت.
القصة التي حظيت بـ3.5 مليون قراءة في الأسبوع الأول فقط من النشر في 20 ديسمبر عام 2012، لم تكن وليدة الصدفة المحضة. ففي لحظة معينة؛ لحظة تاريخية، أدرك الصحفي جون برانش، كاتب الفيتشر، أن ثمة شيء مختلف هنا، وأنه يحتاج إلى تفكير مختلف، مختلف تماماً عما سبقه، فاستغرق الأمر 6 شهور مع فريق متعدد الاختصاصات لإخراج القصة بالشكل الذي خرجت به. حتى أن الفريق اضطر إلى بناء سيستم آخر، خارج سيستم موقع نيويورك تايمز؛ لأنه لم يكن يرقى تقنياً لضخامة الفكرة المراد تنفيذها آنذاك.
لم تكن أحداث القصة استثنائية، ولا أبطالها خارقون أو فوق العادة، ولم يكن بها «انفراد» بالمعلومة، أو اختراق صحفي، أو تسريب استخباراتي، أو ليكس لوثائق ممهورة بمهر القصر الجمهوري أو حتى وزارة الخارج ية، لم يكن كل ذلك. بل كانت قصة إنسانية صدفَ أن وجد صحفي فيها شيئاً مختلفاً يمكن البناء عليه، فمنحته صحيفته الوقت والإمكانات، وأراد الجميع إحداث تغيير؛ تغيير كبير في الصحافة الرقمية، فكان له ذلك.
الفكرة كانت بسيطة في جوهرها: وضع القارئ في مركز الاهتمام وجعله يعايش أحداث القصة، ومنحه فرصة النظر إليها من زوايا مختلفة؟ وهكذا، عبر وسائط مختلفة من نص وصور وفيديوهات وجرافيك وإعادة تركيب مشاهد كاملة، استطاعت نيويورك تايمز أن تنقل القراء إلى قلب العاصفة الثلجية بعد مرور 10 أشهر على حدوثها في 19 فبراير 2012.
هذه الثيمة، في الواقع، تتكرر على مر التاريخ؛ عند كل مفترق حضاري، كان هنالك شخص مختلف، يفكر بطريقة مختلفة، ويريد إنجاز شيء مختلف، فيُحدِث التغيير الذي ينحدر في نهاية الأمر إلى نقطة الصفر، ولكي يستمر التطور سيحتاج إلى تغيير آخر! هذا الت غيير الأخير يسمى Jumping the Curve (القفز من منحنى إلى آخر). فإذا اعتبرنا أن المنحنى-S له بداية ووسط ثم انحدار نحو النهاية، فإن القفز من هذا المنحنى قبيل انحداره؛ إلى منحنى آخر، يخلق ذاك الدفق الذي جعل الحضارة الإنسانية تتقدم باستمرار. التطور لم يكن يوماً تصاعدياً، بل قفزات من منحنى إلى آخر.
إذاً، بعد خمسة أشهر من قصة نيويورك تايمز التي بدأت بهذا المنحنى، نشرت الغارديان في مايو 2013 قصتها Firestorm، فأتبعتها نيويورك تايمز بقصة أخرى The Jockey في أغسطس عام 2013، فردت الغارديان في نوفمبر من ذات العام بقصة NSA Files Decoded، وكانت هذه الأخيرة قد تطورت تطوراً هائلاً حتى بات يُطلق عليها، وبحق، اسم Digital Mega Story (ال قصة الرقمية العملاقة). إنها تلك القصص الاستثنائية في فكرتها، المديدة في عمرها، التي تثير رشقات إبداعية في بحرٍ من القصص المكررة المتشابهة؛ إنها برهان على حيوية الصحافة الرقمية.
هذه القصص التي ألهمت تياراً كاملاً وجباراً في الصحافة العالمية، لم تُذكر إلا نادراً في أدبيات الصحافة العربية التي تعيش ربما أصعب عصورها. فرغم كرم الأموال التي تصرفها المؤسسات الإعلامية العربية على منصاتها الرقمية، إلا أنها لم تدخل عملياً عصر الصحافة الرقمية الحقيقية، ما عدا بعض التجارب المحدودة التي يُعتد بها هنا وهناك، لكنها لم تتحول إلى تيار.
أين تكمن المشكلة؟
المشكلة ليست في أننا كصحفيين لا نملك المهارات الكافية؛ فثمة أسماء تُرفع لها القبعات. ولا هي بسبب الرواتب الضعيفة كما يقال؛ فمعظم المؤسسات الكبيرة تدفع رواتب يحلم بها أي صحفي في الغرب. وهي ليست بسبب أن الصحافة لدينا ليست صحافة كما يُشاع. وهي أيضاً ليست بسبب المؤسسات الإعلامية التي تقدمت كثيراً حتى بتنا نختبر تقنيات Immersive Journalism، على شاشات العربية والجزيرة.
حسناً، في عام 1909 التقى ستة من ألمع رجال العصر في اجتماع مغلق بجامعة كلارك في ماساتشوستس ليتباحثوا في فكرة ستغزو فيما بعد «العالم الجديد» على مدار قرن كامل تقريباً، وهي أن الدماغ تحركه قوى شعورية مظلمة ليس للبشر إلا سيطرة قليلة عليها تكاد تكون منعدمة تسمى «اللاوعي»، وأن الوعي واللاوعي في صراع أبدي يغذيه دوافع كالطاقة الجنسية التي تكبحها الأخلاق المغروسة اجتماعياً، فتُنفِّس عن نفسها في زلات اللسان والأحلام والاضطرابات العصبية إلخ. كان على رأس تلك المجموعة المحلل النفسي سيغموند فرويد وعالم النفس جي ستانلي هول والفيلسوف ويليام جيمس وعالم النفس السويسري كارل يونغ وطبيب الأعصاب البريطاني إرنست جونز.
لكن أبحاث الدماغ الحديثة، اكتشفت جوانب جديدة كلياً في العقل البشري تفيد بأنه «عقل تنبؤي» مبرمج آلياً. وعلى عكس النسخة الفرويدية في أن الوعي واللاوعي في صراع أبدي، فإن العمليات اللاوعية، بحسب نظرية العقل التنبئي، تعمل بتناغم كبير مع إدراكنا الواعي لتوفير طاقة الجسم. فالهدف الأعلى للتفكير هو ألا تفكر؛ وعقولنا لا تسعى إلى المزيد من الوعي، إنما العكس، فهي تسعى إلى إبقاء عمليات الوعي في حدها الأدنى واستخدام القيادة الذاتية -مثل الطيار الآلي- بدلاً من ذلك. هل مر معك أنك تقرأ نصاً بشكل صحيح، رغم أن به أخطاء لغوية؟ نعم، إنها القيادة الذاتية للدماغ.
فرغم الوفرة الغذائية التي نعيشها في عصرنا الحديث، إلا أن ملايين السنين من الجوع والمجاعات وأخطار المجهول جعلت أجسامنا تقتصد في صرف الطاقة، وتخزن كل ما يزيد. ويكفي أن تعلم أن الدماغ الذي لا يشكل سوى 2٪ من وزن الجسم الكلي، يصرف 20٪ من الطاقة التي يصرفها الجسم. لذلك كان الدماغ أكثر عضو في الجسم، وأشدها مكراً في عدم صرف الطاقة بعدم التفكير؛ إنما استغلال تراكم الخبرات السابقة في القيادة الآلية. وعالمياً، فإن 3 أشخاص فقط من كل مائة شخص يفكرون بطريقة مختلفة، وأن 95٪ من حياة كل فرد قائمة على القيادة الآلية.
والحال، أن كثيراً من عمليات التغيير -التفكير المختلف- تُجابه بمقاومة فطرية ونظريات المؤامرة، فهي قد تفضي للهلاك بحسب غريزة البقاء الضاربة في القِدَم! لذلك يميل الناس عموماً إلى التفكير داخل الصندوق، لأنها الأقل صرفاً للطاقة. وعندما تحتدم الأمور، وتستعصي أحد المشكلات على الحل، تراهم يتداعون للتفكير خارج الصندوق.
أين الحل إذاً؟
نحتاج أن نفكر خارج الصندوق.
هذه الإجابة ليست جاهزة ومكررة كما قد تعتقد.
واقعياً، مر زمن طويل في عمر التطور التكنولوجي، منذ أن نشرت نيويورك تايمز قصتها تلك. وما كان يستغرق عدة أشهر في ذلك الوقت، يستغرق الآن بضعة أسابيع أو حتى بضعة أيام. فالتطورات التكنولوجية والأدوات الجديدة والعديدة التي توفرها، فتحت آفاقاً واسعة للتفكير في أشكال الكتابة الصحفية. مَنْ منا كان يعتقد أن مادة صحفية كتبت على شكل رسائل واتس آب، ستلقى الاحتفاء كله الذي لاقته هذه القصة التي نشرتها صحيفة التايم عن أسرة سورية لاجئة Heln’s First Year، أو هذه القصة التي نشرتها نيويورك تايمز عن فتيات خطفتهم حركة بوكو حرامKidnapped as Schoolgirls by Boko Haram، أو هذه القصة التي نشرتها الغارديان the Internet but not as we know it، جميعها تعتمد الحد الأدنى من «النص» الذي هو أصعب عنصر في القصة الصحفية، وتقدم تجربة فريدة، ومؤثرة في القارئ.
تخيل كم الجهد الذي يمكن توفيره بإخراج الصحافة من ربقة النص، ومدى السهولة في تحريك المراسلين الذين تنقصهم غالباً خبرة الكتابة الصحفية الجيدة، لإنتاج مواد بصرية بدلاً من نصوص ضعيفة، وتيّسر عليهم صعوبة الوصول إلى المعلومات الرسمية، بالتركيز على قصص الناس اليومية، ومدى التجربة الغنية التي ستقدمها للقارئ الذي سيجزيك مقابل كل ذلك.
السنة الماضية، حاولت أن أستكشف هؤلاء الـ3٪ الذي يستطيعون التفكير خارج الصندوق، ضمن فريق كان يعمل معي، وأنشأنا مختبراً إعلامياً سميناه Mobile Lab؛ نعم مختبر مثل المختبرات الطبية أو المختبرات العلمية. وبدأنا على مدار 3 أشهر بوضع أرضية مشتركة للتفاهم وتأسيس المنطلقات وتحديد بعض المشكلات التي استعصت عليها الحلول، وأجرينا بعض التجارب العلمية واختبارات A/B، وطرحها على القراء وقياس ردود أفعالهم. التجربة لم تستمر لأسباب عديدة أولها ما ذكرناه آنفاً المقاومة الغريزية لمحاولة التغيير.
ما نحتاج إليه هي تلك المختبرات الإعلامية التي باتت منتشرة في مؤسسات إعلامية حول العالم منذ سنوات، وأن نعزز ثقافة عدم النظر إلى محاولات التغيير على أنها صرف للطاقة. لقد أدركت هذه المؤسسات منذ زمن قوة هؤلاء الـ3٪ في القفز فوق المنحنيات.
الأمر ليس سهلاً حقاً، لكنه يستحق المحاولة.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020