لسنا وحدنا.. فالعالم مثلنا أيضاً
الجهل المعرفي ينبع من طبيعة تركيبة أدمغتنا نحن البشر
هل نحن محكومون بأوهامنا المعرفية إلى الأبد؟ للأسف نعم.
22.6.20
رشاد عبد القادر
أنت كفرد تتوهم أنك تعرف أكثر مما كان يعرفه صياد قبل آلاف الأعوام، لكن الحقيقة أن معارفك بحاجياتك في عالمك أقل بكثير من معارفه بحاجياته في عالمه. فنحن في عالمنا المعاصر نعتمد على خبرات الآخرين في تلبية جميع احتياجاتنا تقريباً.
فشلت وأنا أسير مع ابنتي ذات الـ8 أعوام باتجاه المنزل، في إيجاد حاوية أرمي فيها عقب سيجارة كنت أحمله في يدي. بحركة خاطفة مواربة عن الأعين، أرخيت ذراعي إلى الخلف قليلاً، ورميته قرب أعقاب سجائر أخرى تفرقت على الطريق أسفل جذع شجرة ممتدة إلى الأعلى. فبعد خطوات سأكون قد وصلت إلى الباب، وسأحتاج إلى يدٍ حرّة أسحب بها كمّ القميص لأغطي به الإبهام كعازل قبل الضغط على زر الجرس خوفاً من كورونا. في اليد الأخرى كنت أحمل حقيبة ثقيلة.
ليتني لم أفعل.
عادة؛ حسناً، ليس دائماً، أرمي أعقاب سجائري في ثقب الحاوية المخصص لها. لكن هذه المرة -هكذا فكرت- البيئة لن تنهار بسببها. بيري، وهو اسم ابنتي، التي لاحظت بطريقة ما ارتطام عقب السيجارة بالأرض وارتفاعه قليلاً مجدداً، ثم استقراره قرب أعقاب السجائر الأخرى، كان لها رأي مختلف! في الواقع، كان قناعة راسخة أكثر من كونه رأياً.
- لماذا رميت سيجارتك على الأرض. أنت تدمر البيئة بهذا.
- لم أنتبه، لقد سقطت من يدي.
كذبتُ طبعاً، لأخرج من الموقف المحرج، فأنا أدرك أبعاد الحديث.
- غير صحيح، رأيتك ترميها على الأرض! لا أدري لماذا يفعل الناس الأغبياء ذلك. أنتم لا ترحمون الأرض المسكينة.
سكتّ. لا أعتبر نفسي غبياً، ولم أكن مقتنعاً تماماً بما تقول. لكن قفلت راجعاً إلى عقب السيجارة الذي كنا قد ابتعدنا عنه خطوات، التقطته بيدي وأريته لبيري قبل أن أدسه في جيب الجاكيت، قائلاً:
- أنا آسف. لن يتكرر ذلك. - حسناً، هكذا أفضل.
ستكبر بيري يوماً. ستذهب إلى الجامعة. ربما ستدرس أحد الفروع العلمية أيضاً. وستتعلم أن عقب سيجارتي ذاك هو أهون الشرور التي تُرتكب بحق البيئة. لكنها، على الأرجح، ستظل تغضب أكثر من أولئك الذين يرمون أعقاب سجائرهم قرب جذوع أشجار ترتفع إلى السماء.
ما قالته بيري لم يكن -بطبيعة الحال- رأياً قائماً على معرفة بفداحة الأضرار التي تلحق بالبيئة، ولم يكن وجهة نظر فكرتْ فيها، وتمحصتها قبل أن تتحداني بها، بل كان تبنياً لـ«مانترا» (سنتحدث عن علاقتها بالصحافة لاحقاً) تَعَلَّمْتُه في المدرسة مع أصدقائها الآخرين. «مانترا» تضفي معنىً على حياتها الاجتماعية معهم. لا يهم مدى صحتها، بل تكفي تلك «الطاقة المعرفية» التي تشعر بها غريزياً كفرد بالانتماء إلى «معارف» الجماعة.
كانت هذه الفكرة التي تُعرف أكاديمياً بـ وهم العمق التفسيري Illusion of Explanatory Depth، أو وهم المعرفة Knowledge Illusion، مثار بحث مسهب في مختبرات العلوم المعرفية Cognitive Science والبحوث التسويقية لفهم الطريقة التي يفكر بها البشر والكيفية التي يتخذون بها قراراتهم المختلفة في حياتهم اليومية.
عام 2017 صدر كتابان Scienceblind لأندرو شتولمان و The Knowledge Illusion لستيفين سولمان وفيليب فيرنباخ، في عالم منقسم مستقطب سياسياً وعلمياً بين يمين محافظ يشكك في كروية الأرض والتغييرات المناخية ويسار ليبرالي يشكك في جدوى اللقاحات والأطعمة المعدلة وراثياً. الكتابان بحثا في مجالين مختلفين تماماً، لكنهما توصلا إلى نتيجة واحدة مفاجئة مفادها: الجهل المعرفي ليس سببه الأيديولوجيا والمعتقدات، بل ينبع من طبيعة تركيبة أدمغتنا نحن البشر.
حسناً، جرّب أن تسأل صديقك الذي يجلس بجانبك، أو أحد أفراد أسرتك السؤال التالي: لماذا الصيف حار والشتاء بارد؟ سيكون الجواب القاطع في معظم الأحيان هو اقتراب الشمس من الأرض أو ابتعادها عنها. لعلك أنت أيضاً تعتقد ذلك. من أين جاءت هذه الإجابة؟ وكيف ترسخت في الأذهان لدرجة اليقين مع أنها خاطئة! (إذا كنت تعتقد أن السؤال صعب، يمكنك أن تجرب السؤال عن أشياء أبسط، ثم ابحث على جوجل لتعرف الإجابة التفصيلية الصحيحة).
والحال أن فهمنا الناقص للعالم من حولنا، لا يقتصر على التفاصيل الصغيرة فقط، بل يمتد إلى حقيقة جلية مثل كروية الأرض. فما بالك إذاً بالقضايا الخلافية الأيديولوجية -ولا يهم إن كنت مؤيداً أم معارضاً- مثل الخلافة، أو الصحابة، أو الدولة، أو حقيقة صحيح البخاري، أو زواج المسلمة بغير المسلم، أو الحجاب، أو السنة والشيعة، أو أن الأكراد بشر لهم حق الحياة! وكلما ازداد الحماس passion تجاه قضية من هذه القضايا كلما ازداد "وهم المعرفة" لدى المنخرطين فيها.
فما الذي يجري، وكيف تخدعنا أدمغتنا؟ الأمر ليس بالسوء الذي قد يبدو عليه. الأشخاص كأفراد لديهم قدرة محدودة جداً على معالجة المعلومات، وهذه القدرة في تراجع مستمر مع تزايد المعلومات التي تحتاج إلى معالجة ذهنية. فالصياد في العصر الحجري مثلاً، كان يعرف كيف ينتج ملابسه بنفسه، وكيف يبدأ ناراً من لا شيء، وكيف يصطاد أرنباً، وكيف يهرب من أسدٍ جائع. الآن، أنت كفرد تتوهم أنك تعرف أكثر مما كان يعرفه ذاك الصياد، لكن الحقيقة أن معارفك بحاجياتك في عالمك أقل بكثير من معارفه بحا جياته في عالمه. فنحن في عالمنا المعاصر نعتمد على خبرات الآخرين في تلبية جميع احتياجاتنا تقريباً.
لكن في الواقع، نحن لا نعتمد على الآخرين في تلبية الحاجات اليومية فقط، بل نعتمد عليهم في التفكير أيضاً! فمن لديه الوقت مثلاً لقراءة «صحيح البخاري نهاية أسطورة» لرشيد أيلال والبحث في حججه لتفنيدها، عوضاً عن ذلك ستجد لدى آخرين يتبنون الـ«مانترا» التي تتبناها أنت، رداً جاهزاً يوفر مشقة التفكير، وهو أن «علماء الأمة أجمعوا أنه ثاني أصح الكتب إطلاقاً بعد القرآن الكريم،» مع أن الحقيقة تقول إن البخاري تعرض للتنكيل والاضطهاد من علماء عصره. علماً أن هذا حالنا جميعاً، بمن فيهم ابنتي بيري ، دون انتقاص من شأن أحد. فنحن كبشر مجبولون بالبديهيات مع أنها غير حقيقية، لأنها تساعدنا على التعامل مع البيئة اليومية بصورة عملية.
وهذا ليس سيئاً بالضرورة، فاعتمادنا على التفكير الجماعي قد جعلنا سادة العالم، و«وهم المعرفة» يسّر لنا خوض غمار الحياة دون الدخول في وهم مستحيل آخر أنه يمكننا فهم كل شيء بأنفسنا. فالثقة بمعرفة الآخرين كانت دافعاً أساسيا لتطور البشرية.
مع ذلك، فإن الاعتماد على وهم «معرفة الآخرين» له جانبه السلبي أيضاً. فالعالم أصبح معقداً أكثر من أي وقت مضى، ويفشل معظم الناس في إدراك مدى جهلهم بما يجري من حولهم، إذ يغلقون على أنفسهم في غرف صدى يرددون فيها ما يردده آخرون يشبهونهم.
إذن، هل نحن محكومون بأوهامنا المعرفية إلى الأبد؟ للأسف نعم. هذا هو ملخص إجابة الكتابين. فمن غير المرجح أن تغير الحقائق طريقة تفكير الناس. وهذا ما انتبهت إليه أقسام التسويق في الصحف العالمية، وكانت بمثابة اكتشاف من الذهب الخالص.
فـ Democracy dies in darkness كانت «مانترا» وصرخة حشد مذهلة أطلقتها واشنطن بوست لدفع المشتركين إلى الضغط على زر التسجيل، بخلق ذاك الشعور بالانتماء إلى «نادي المدافعين عن الديمقراطية المهدَّدَة.» ففي أجواء التنافس على الاشتراكات التي باتت الدخل الأساسي للصحف، والمناخ السياسي المكهرب عالمياً اندفعت المؤسسات الصحفية مثل نيويورك تايمز وفايننشال تايمز والغارديان وغيرها إلى رص الصفوف ليس خلف القيم التي تمثلها هذه الصحف إنما ضد الذي يهددون هذه القيم؛ حتى سُمِّيَت بـtribal subscription marketing أو التسويق العشائري.
بهذه الاستراتيجية، استطاعت كل من نيويورك تايمز وواشنطن بوست أن تحققا عدد اشتراكات أكبر من كل الصحف المحلية (نيويورك تايمز 39% وواشنطن بوست 31% ومجمل الصحف المحلية 30% فقط).
أمام كل ذلك، نجد أن المواقع العربية الكبرى، فشلت حتى الآن (بعكس الشاشات العربية الإخبارية) في خلق "مانترا" تجسد قيماً يتجمع حولها القراء، رغم أن منطقتنا هي الأكثر سخونة واستقطاباً ربما حول العالم. وبدلاً من القيم ذات العمر المديد، حشدت هذه المواقع قراءها حول معارك سياسية مؤقتة، علما أن الطرفين لديهما قيم أساسية كان الأولى أن تكون هي مكان التزاحم على قلوب القراء وأفئدتهم.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020