لا يكفي أن تكون صحفياً
صعود معيار عدد الزيارات للمواقع الإلكترونية وسقوطه
الصحفي الجيد مثل العازف الجيد، عليه أن يعرف أين يضع إصبعه.
11.6.20
رشاد عبد القادر
أولئك الذين يعزفون على أحد الآلات الموسيقية، يعلمون تلك المساحات المحسوبة بدقة هندسية متناهية بين العلامة الموسيقية ونصف العلامة وربع العلامة. والصحفي الجيد مثل العازف الجيد، عليه أن يعرف أين يضع إصبعه.
في أحد أيام عام 1942 ناول ألبرت آينشتاين أوراق الامتحان إلى طلابه في جامعة أكسفورد، وبينما كان يسير نظر إليه مساعده وسأله باستغراب:
- «دكتور آينشتاين، أليست أسئلة الامتحان التي ناولتها لطلابك قبل قليل هي ذاتها أسئلة امتحان السنة الماضية؟»
- «نعم، نعم، هي ذاتها بالضبط»، أجاب أينشتاين.
- «لكن دكتور آينشتاين، كيف تفعل ذلك!»، قال المساعد.
- «حسناً،» أومأ آينشتاين برأسه «لقد تغيرت الأجوبة.»
خطرت ببالي هذه القصة عندما تذكرت النقاش المرير، والطويل، الذي خضته قبل نحو سنة مع زملاء لي حول جدوى أحد أشهر المقاييس استخداماً في المواقع الإلكترونية؛ وهو عدد القراءات أو ما يُعرف بالـ Pageviews.
فمنذ إطلاق جوجل أناليتيكس في نوفمبر 2005، بات هذا الـ Pageview مقياساً أساسياً لأداء المواقع الإلكترونية التي كانت تبحث عن قراءات أكثر لتحقق أرباحاً إعلانية أكبر. النتائج كانت مدمرة. فقد نشأت مزارع المحتوى Content Farm التي كانت «تفرّخ» المقالات مثل مزارع الدجاج، وتراجعت النوعية ليحل محلها الـ Clickbait أو المحتوى المضلل، وباتت الحاجة إلى الصحفيين الحقيقيين في أدنى مستوياتها طالما أن أي شخص يمتلك مهارة النسخ واللصق قادر على القيام بالمهمة، ووجدت جوجل نفسها في ظل 3.5 مليار عملية بحث يومياً تصرف أموالاً طائلة (7 مليارات ف ي عام 2013) على خوادم تضم كماً هائلاً من المحتوى الذي لا يضيف قيمة عند القراء.
بعد 15 سنة من عمر جوجل أناليتيكس لا يزال السؤال الأساسي لدى المواقع الإلكترونية هو ذاته: كيف نحقق الأرباح؟ لكن الإجابة، حسناً، لم تعد هي بالضبط؛ لقد تغيرت.
في عام 2017 حدث شيء غريب. انطلقت حركة عالمية تحت اسم #MeToo بعد أن نشرت نيويورك تايمز ونيويوركر قصة هارفي وينشتاين الذي استغل منصبه لإقامة علاقات جنسية مع ممثلات شهيرات، وحازت القصتان حينها على جائزة بوليتزر، لكن لدى البحث عن هذه القصة على محرك جوجل كان يظهر في المرتبة الأولى تقرير شارح نشرته بي بي سي. لم يكن الأمر منطقياً.
منذ ذلك الحين، وحتى اليوم، تغيرت خوارزميات جوجل كثيراً، إذ أضافت معايير النوعية والفرادة والأصالة على سلم الأولويات. وتغير معها جوجل آناليتيكس وسلوك القراء على الإنترنت، وتغيرت المواقع العالمية أيضاً. لكن المواقع العربية الكبرى ظلت أسيرة عدد القراءات، فإجابتها على السؤال القديم هي ذاتها الإجابة القديمة، إلا أنها أضافت ثنائية جديدة ليصبح فك الأسر شبه مستحيل: فأما الانتشار (Pageviews) أو التأثير (Quality)!
وكان آخر تحديث كبير على جوجل أناليتيكس قبل نحو أسبوعين عندما أعلنت باقة جديدة من التغييرات تركز فيها على «التجربة الإيجابية» التي تمنحها المواقع لقرائها، وليس عدد القراءات التي يمنحها القارئ للموقع. وبذلك بات الـUser Experience في مركز الاهتمام.
أدركت المواقع العالمية باكراً هذا الأمر، وغيرت استراتيجياتها منذ سنوات، والآن تقطف الثمار إذا علِمْتَ أن الغارديان مثلاً وصلت إلى 2.17 مليار قراءة في فبراير الماضي، ومثلها تقريباً نيويورك تايمز (1.2 مليار) وواشنطن بوست وفايننشال تايمز وول ستريت جورنال، رغم أن هذه الصحف، ما عدا الغارديان، تعتمد استراتيجية الخدمة المدفوعة، وليس عائدات الإعلانات من عدد القراءات المجانية. بينما متوسط المواقع العربية الإخبارية (وليست الترفيهية) تصل إلى نحو 50 مليون قراءة.
كيف فعلت هذه المواقع ذلك؟
لقد استثمرت في القارئ، واكتشفت العادات Habits والأنساق patterns التي تتحكم في سلوكه، وكان هذا جوابها الجديد على السؤال القديم.
الأمر ليس سهلاً كما قد يبدو لأول وهلة. فمعظم المنصات التي تحلل بيانات المستخدمين؛ مثل جوجل أناليتيكس، و«تشارت بيت» و«بارسلي» وغيرها الكثير، تقدم في الواقع هذه البيانات مجردة من سياقها الفعلي. ونادراً ما يستطيع القائمون على المواقع الإلكترونية تحويل هذه الأرقام إلى خطوات عملية. فهي تعطي مؤشرات عامة على الأداء، لكنها لا تشرح ما الذي يجري عند القارئ؛ تبين أي مادة حازت على قراءات أكثر، لكنها لا توضح لماذا حازت على هذه القراءات. فكيف وصل القارئ إلى هذه المادة؟ وما الذي لفت انتباهه؟ هل هي الصياغة أم الصورة أو ربما توقيت النشر، لعلّه العنوان؟ كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير، يحاول الصحفي الإجابة عليها بحدسه؛ فيصيب مرة ويخيب مرات.
لم تكن علاقتي جيدة يوماً مع الأرقام. وأحسب أن معظم الصحفيين مثلي. فأنّى لنا أن نستطعم ذلك المعنى المتعالي / الصوفي / الكوني فيها؛ نحن الذين هربنا من الرياضيات والفيزياء والهندسة والجبر إلى دراسة الفروع الأدبية. لكن الأرقام متعالية transcendental، لا يُفهم معناها إلا بعمل زوم آوت ومشاهدة تلك الخيوط التي تربط فيما بينها. وهذا ما يفعله بالضبط محللو البيانات، وعلماء الرياضيات طبعاً.
قبل نحو 800 عام، نشر الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي كتاباً أسماه «ليبر أباتشي» (كتاب الحساب) مستلهماً الأرقام العربية التي تعرّف إليها في مدينة «بجاية» الجزائرية حيث كان لوالده تجارة هناك. وأورد فيها متتالية عرفت فيما بعد بـ«متتالية فيبوناتشي» حيث إن كل حد في هذه المتتالية هي مجموع الحدين السابقين: 1-1-2-3-5-8-13-21…... استخدمت هذه المتتالية فيما بعد في الأسواق المالية وخوارزميات الكمبيوتر، وحتى في العلوم البيولوجية، فمثلاً الزهور جميعها تتبع هذه المتتالية في عدد أوراقها، لا تجد زهرة بـ 4 أو 6 أو 9 أوراق مثلاً، والكثير من الأشياء الأخرى في كوننا الفسيح. ويكاد المرء يقف صامتاً في حضرة ذلك الهارموني الذي تتحرك فيه أسراب الطيور أو الأسماك، أو تلك الإضاءة المتناغمة التي تطلقها عشرات آلاف حشرات اليراع من بطونها في إيقاع كوني متعالٍ صوفي تضاهي بجمالها لوحات فان كوخ ورنوار ومونيه. حسناً، لقد وجد العلماء أن كل ذلك يسير بحسب أنساق ومعادلات رياضية، من حركة الذرات إلى تشكل المجرات. فمتى تعلمت كل هذه المخلوقات الكونية الرياضيات!
في الواقع، نحن أيضاً كمستخدمي الإنترنت، لدينا هذه الأنساق، وهذه المعرفة اللاواعية بالرياضيات التي تتحكم في سلوكنا. ويمكنك تخيل المعادلة الرياضية المعقدة التي تستخدمها دون أن تدرك ذلك، لالتقاط كرة بقدميك في المكان والزمان الصحيحين: y = (v/u) x - (x^2/2u^2) x^2، هذا ما استثمرت فيه مواقع مثل نيويورك تايمز التي أطلقت Project Feel لتتنبأ بالشعور التي ستنتاب القراء لدى قراءة مادة ما، وفرضت على المعلنين الذي يريدون أن ترتبط منتجاتهم بشعور معينة أسعاراً تعادل عدة أضعاف الأسعار العادية، وProject Habit الذي أطلقته وول ستريت جورنال، واستطاعت من خلاله التعرف إلى عادات القراء وتحويلهم إلى مشتركين دائمين في الصحيفة، ومشروع Quality Read الذي أطلقته فايننشال تايمز للاحتفاظ بالمشتركين لأطول فترة زمنية ممكنة، وغيرها من المشاريع التي أطلقتها واشنطن بوست والغارديان على مدار السنوات الماضية، وكان لها مفعول السحر في أعداد المشاهدات التي ذكرناها سابقاً.
وأولئك الذين يعزفون على إحدى الآلات الموسيقية، يعلمون تلك المساحات المحسوبة بدقة هندسية متناهية بين العلامة الموسيقية ونصف العلامة وربع العلامة لتخرج تلك النغمات التي تستسلم لها أرواحنا. والصحفي الجيد مثل العازف الجيد، عليه أن يعرف أين يضع إصبعه.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020