كيف تكون مكتشفاً للمشاكل؟
كيف تطوّر نفسك
النظام الرأسمالي كي يستمر يقوم بتدمير ذاته إبداعياً، بالتخلص من البنى القديمة المهترئة وإحلال بنى جديدة محلها.
25.10.20
رشاد عبد القادر
الطلب في سوق العمل لن يكون على الذين يحلون المشاكل، بل على مكتشفي المشاكل. حل المشاكل سيكون مهمة سهلة ووظيفة الذكاء الاصطناعي.
عندما أطلقت شركة فولكسفاغن بداية هذا العام سيارتها الجديدة Golf 8، التي تعتبرها «دُرة التاج» في سياراتها الرقمية (وهي بالضرورة ليست كذلك!)، كانت في الواقع متأخرة كثيراً عن جدولها الزمني، بسبب المشكلات المزمنة في أنظمتها الرقمية. فالشركة التي تدفع رواتب أكثر من 300 ألف موظف ثابت، وما يعادلهم أو أكثر من الموظفين غير الثابتين، تدرك الآن المصير الذي قد ينتظرها في المستقبل القريب بعد أن استثمرت على مدار عقود وعقود في تطوير ميكانيك السيارات، وأهملت تطويرها رقمياً، بعد أن افتتحت Tesla أحد أضخم فروعها قرب برلين؛ المدينة التي تُعرف بمصمميها، وهو المطمع الذي أعلنه إيلون ماسك، لتصبح سياراتها الأكثر نمواً من حيث المبيعات في عقر دار صانعة أفخر السيارات في العالم؛ ألمانيا.
لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يغير الناس تفضيلاتهم. هذا ما حدث تماماً مع «بلاك بيري»، في غضون ثلاث سنوات فقط تخلّيتُ عن الهاتف الأسود الجذاب الأنيق بأزراره الكثيرة، وانتقلت نهائياً إلى صفوف المنتظرين للحصول على هاتف آيفون في عام 2011.
الأمر به مفارقة. كيف لم تنتبه شركة عملاقة بحجم فولكسفاغن، وتستثمر في مواهب البرمجة داخل بلدها؟ ومن أين أتت تلك الفكرة «الشيطانية» أن يفتتح إيلون ماسك الفرع الأوروبي العملاق لشركته «الصاعدة» قرب برلين طمعاً بالمواهب داخل المدينة الألمانية التي لم تكتشفها فولكسفاغن!
الأمر بسيط؛ إنه يتعلق بزاوية النظر. ففولكسفاغن تنحدر من ثقافة مترسخة بيروقراطياً في ألمانيا تنظر إلى «المواهب» على أنها الشهادات التي تحملها، بينما تنظر تسلا -وليدة الثقافة الأمريكية- إلى «المواهب» على أنها المهارات القادرة على القيام بها. لذلك تجد أن 20 ألفاً من مطوري البرمجة، وبضعة مليارات الدولارات في فولكسفاغن لم تستطع إنجاز ما أنجزه 300 مطور في تسلا. وليس غريباً أن الرئيس ترامب وقّع قبل أشهر قليلة أمراً إدارياً يقضي بمنح الأولوية للمهارات على الدرجات العلمية في التوظيف الحكومي.
حسناً، الأمر ليس بهذه البساطة تماماً، فثمة عوامل أخرى أساسية وأكثر تعقيداً تلعب دوراً، كان قد تحدث عنها ماركس أولاً في كتابه «غروندريسه» المترجم إلى العربية تحت عنوان «أسس نقد الاقتصاد السياسي»، وطورها فيما بعد العالم النمساوي الأصل جوزيف شومبيتر لما بات يعرف الآن بمفهوم «التدمير الخلّاق» creative destruction، ومفاده أن النظام الرأسمالي كي يستمر يقوم بتدمير ذاته إبداعياً، بالتخلص من البنى القديمة المهترئة وإحلال بنى جديدة محلها.
والواقع أن العملية معقدة، وقد حدثت مرات ومرات. لكن علماء الأنثروبولوجيا يركزون على حدثين فاصلين ميّزا التاريخ البشري: تمثال الرجل-الأسد العاجي (أو المرأة-اللبؤة إذا شئت) الذي اكتُشف في كهف هولنشتاين-ستادل بألمانيا ويعود تاريخه إلى ما قبل 40 ألف سنة. وهو عملياً، إعلانٌ لميلاد «الخيال» عند البشر، ويمثل أيضاً أقدم شكل للصحافة التي خرجت من رحم «النميمة»، ويشير إلى «الثورة الذهنية» التي ميزت البشر عن باقي الكائنات على الكرة الأرضية. فمع هذا التمثال، بات بمقدور الإنسان العاقل التحدث عن أشياء لا توجد حقاً. ففي كتابه «العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري»، يقول يوفال نوح هراري إنه لا يمكنك إقناع قرد أن يعطيك موزة بأن تعده بكمية كبيرة من الموز بعد الموت في «جنة القردة». لكن البشر استطاعوا التحدث عن روح الرجل الأسد الحارسة للقبيلة، ومنذ ذلك الوقت اكتشف آدم «شجرة المعرفة» و»أُذن» للأديان والرسالات السماوية بالنزول على البشر.
والحدث الثاني، كان «أسد» شركة بيجو الفرنسية للسيارات. وقد بدأت كشركة عائلية صغيرة بقرية فالونتيه التي لا تبعد عن كهف هولنشتاين-ستادل سوى 300 كيلومتر فقط، وتوظف الآن نحو 200 ألف شخص حول العالم، معظمهم غرباء لا يعرفون بعضهم، وتصل عائداتها إلى 74 مليار دولار. مع هذه الشركة، بدأ نوع جديد من الخيال مختلفٌ عن الخيال الذي جاء مع تمثال الرجل الأسد، لم يعتده البشر من قبل.
ففي عام 1896 قرر آرمو بيجو تسجيل الشركة الصغيرة التي ورثها عن والده كشركة محدودة المسؤولية والدخول في مجال السيارات. والشركات محدودة المسؤولية هي ضرب من الخيال يسميه المحامون «خيالاً قانونياً»؛ فهل شركة بيجو هي عدد سياراتها؟ لا طبعاً، فحتى لو أعدمت كل سيارات بيجو وبيعت كخردة -كما يقول هراري- ستظل شركة بيجو قائمة. تمتلك الشركة أيضاً مصانع وآلات ومعارض، وتوظف ميكانيكيين ومحاسبين وتقنيين، لكن كل ذلك مجتمع لا يشكل بيجو، فحتى لو تم التخلص من كل ذلك ستظل الشركة قائمة، ويمكنها اقتراض المال من البنوك لتبني مصانع جديدة، وتوظف أشخاصاً آخرين. لا يبدو أن لبيجو أي ارتباط بالعالم المادي. لكن بالمقابل، لو أمر قاضٍ بتصفية الشركة، فإنها ستتلاشى حتى لو بقيت مصانعها وموظفوها وسياراتها. مع نهاية القرن الثامن عشر؛ كانت القوانين محبطة للأعمال الحرة، فابتكر القانون الفرنسي فكرة الشركات محدودة المسؤولية كعملية تدمير داخلية خلاقة، تعفي مالكي هذه الشركات من المسؤوليات القانونية أمام المستهلكين في حال فشلت مغامراتهم التجارية. وبدأنا جماعياً نتخيل وجود الشركات محدودة المسؤولية، ونتعامل معها على أنها واقع، وأصبحت لاعباً رئيسياً في الاقتصاد العالمي خلال القرنين الماضيين.
وبكلمات ماركس في كتابه «غروندريسه» فإن تناقضات النظام الرأسمالي «تولّد انفجارات عنيفة وأزمات تؤدي آنياً إلى تعطيل العمل وإبادة حصة كبيرة من رأس المال بحيث يتقلص الأخير بشدة إلى المستوى الذي يستطيع عنده بدء النشاط من جديد»، هذا ما تقوم بتعجيله جائحة كورونا، فالاقتصادات التي ستخرج من هذه الأزمة ستكون مختلفة كلياً، وستضمحل تلك الحدود التي رسمتها الثورة الصناعية بين أرباب العمل والموظفين والحكومات، ونكاد أن نكون على عتبة الحدث الثالث بعد تمثال الرجل-الأسد وأسد شركة بيجو، بحسب ما يقوله توماس فريدمان في مقالة له بنيويورك تايمز، حيث «ستظهر بعض الأشياء المذهلة، وستختفي بعض المؤسسات العريقة، مثل الجامعات، وتتغير طبيعة العمل وأماكنه والقوى العاملة أيضاً.»
ويحدث الآن أمران أساسيان: أولاً، العالم يزداد تماسكاً؛ نعم تباطأت عولمة السلع وحركة الناس، بسبب الوباء، لكن تزايدت عولمة الخدمات. ويتقلص العمر الوسطي للمهارات؛ أي الفترة الزمنية لظهور مهارة جديدة ثم انتشارها وازدهارها وانحدارها نحو النهاية الطبيعية بأن تصبح غير مطلوبة. وهذا يعني عملياً أن أطفالنا سيضطرون إلى تغيير مهنهم مرات عديدة في حياتهم. ما يعني أن مسار حياتهم المهنية لن يتبع المسار التقليدي: من التعلم إلى العمل، بل سيكون: العمل – التعلم – العمل – التعلم.. إلخ، أي أن ما سيميزهم هو قدرتهم على التعلم باستمرار. نعم، الجميع يحتاج الأساسيات القوية في القراءة والكتابة والرياضيات، ولكن في عالم ستتغير فيه الوظائف والمهن مرات عديدة، سيكون الدافع الذاتي لدى المرء بأن يكون متعلماً مدى الحياة أمراً بالغ الأهمية.
وثانياً، سيكون الطلب ليس على الذين يحلون المشكلات Problem Solvers بل على مكتشفي المشكلات Problem-Finders، فهذا العصر هو عصر أولئك الأشخاص ذوي الاهتمامات المتنوعة في الفن والأدب والعلوم والأنثروبولوجيا، الذين يمكنهم تحديد الأشياء التي يريدها الناس حتى قبل أن يعرف هؤلاء ذلك، مثل ستيف جوبز الذي كان مكتشفاً فذاً للمشكلات. حل المشكلات سيكون مهمة سهلة ووظيفة الذكاء الاصطناعي، فقريباً ستجد أن الآلات تقوم بكل عمليات البرمجة، يكفي أن تحدد لها المشكلة بأبعادها، وستجد لها حلاً.
وقبل نحو سنة أدركت فولكسفاغن فداحة المشكلة التي تعانيها، وبعد أن فشلت في توظيف الكفاءات داخل ألمانيا، أقدمت على تلك الخطوة التي سمّيتها في البداية «التدمير الخلاق» للسيستم، فقد افتتحت جامعة 42wolfsburg في مدينة فولفسبورغ، مقر الشركة، لتخريج المواهب من المبرمجين، ومن دون شروط؛ نعم من دون أية شروط وبراتب شهري أيضاً. فلن يسألوك عن لونك أو عرقك أو جنسيتك أو دينك، أو المدارس التي ارتدتها، ولن يطلبوا منك شهادة، وليس مطلوباً معرفتك المسبقة بالبرمجة، أو الخبرة في هذا المجال، كل ما هنالك بعد أن تتقدم للتسجيل أنك ستشارك في لعبة أونلاين سيتعرفون من خلالها على قوة المنطق لديك وقدرتك على التعلم المستمر.
وقبل أيام قليلة، رفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى قضائية ضد شركة جوجل، متهمةً إياها بإساءة استغلال هيمنتها في البحث على الإنترنت بطرق تضر بالمنافسين والمستهلكين، ما يخنق بيئة الإبداع لدى الصغار، في وقت يحتاج فيه رأس المال لكل صوت مبدع مهما كان صغيراً؛ ليساعده على الخروج من الورطة التي وضع نفسه فيها. وهذه أول دعوى من نوعها ضد جوجل. وليس من المتوقع الخروج بنتائج حاسمة لهذه المعركة، لكنها بكل تأكيد ستكون طويلة ومستمرة ومزعجة لل شركة التي تهيمن على البحث والإعلانات عبر الإنترنت، وستضطر في النهاية لتقديم تنازلات كما فعلت أخيراً، ورضخت لتقديم مليار دولار للناشرين بعد سنوات من المطالبات. لا يعد هذا كافياً طبعاً لكنها بداية جيدة.
وصحافياً، بعد أن أعلنت شركة آبل قبل أيام أيضاً، عن هاتفها آيفون 12 الذي يدعم تقنية G5 - صحيح أن شركات أخرى سبقتها إلى ذلك، لكن انتشار هذه التقنية كان بطيئاً - سنشهد ثورة في الصحافة الرقمية في مجالين رئيسين: كيف نجمع الأخبار وكيف نقدمها. ويمكنك أن تتخيل الإمكانات التي تقدمها هذه التقنية مع مقدرتك للوصل إلى 4 جيغابايت في الثانية الواحدة! وفي نيويورك تايمز يعملون منذ سنة في مختبر خاص لاستكشاف إمكانات هذه التقنية. وفي بي بي سي قطعوا أشواطاً في تطوير ما يسمونه Object-Based-Media، حيث ستتحول غرف الأخبار كلياً عن الشكل الذي نعرفه الآن.
إنها أوقات استثنائية وممتعة لمتابعتها، وبحق نحن مقبلون على عصر ما بعد الخيال، أو ربما صناعة الخيال ذاته!
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.