في مديح الثقة
كيف يستطيع الإعلام بناء الثقة
تقوم حياتنا نحن البشر على مفهوم «الثقة» الذي لا يزال بمعظمه فلسفياً أكثر من كونه علمياً.
21.7.20
رشاد عبد القادر
إن المبدأ الأول للصحافة - سعيها غير المتحيز نحو الحقيقة - هو في نهاية المطاف ما يميز الصحافة عن أشكال الاتصال الأخرى. فالحقيقة ليست كاملة أبداً، إنما في طور التشكل دائماً مع كل قصة جديدة.
الأشهر الأخيرة من عام 2016 التي تلت الانتخابات الأمريكية، شهدت صعوداً وتدفقاً لما اصطلح عليه بـ«الأخبار المزيفة» Fake News. والواقع أن المصطلح لم يكن سوى تسمية أخرى لـ«فن الكذب» الضارب في القدم. فمنذ فجر ظهور اللغة، استخدم البشر الكذب لأسباب شتى: للفوز في الجدل الدائر فيما بينهم، ولتحميل عبء المسؤولية على أكتاف الآخرين، ولممارسة الهيمنة عليهم.. إلخ. حتى في الترفيه، كان الكذب أحد أعمدته الأساسية؛ فالقصص التي أمضوا بها لياليهم الطويلة، كانت بمعظمها قائمة على ليّ الحقائق لجعلها مستساغة درامياً.
الكذب في جوهره، هو تزويد الآخرين بمعلومات خاطئة. وكثيراً ما تكون عواقبه يسيرة، لكنها أحياناً كانت كارثية أفضت إلى إبادات جماعية. وإن كانت ثمة فضيلة للضجة التي أثارتها «الأخبار المزيفة» في السنوات الأخيرة، فهي أنها رفعت مجدداً من شأن «المصداقية»، حتى بات الناس يتناقشون أكثر من أي وقت مضى على مر التاريخ، حول أهمية تقويم "المعلومات" وتمحيصها قبل اتخاذ قرارات على أساسها، سواء تعلق الأمر باستخدام دواء، أو شراء سيارة، أو التصويت في انتخابات، أو حمل بندقية لتصفية أعداء مفترضين.
وعلى الأرجح، سيشير الناس بعد قرون من الآن، إلى عصرنا هذا بكونه «العصر الرقمي»، كما نشير نحن إلى العصور السابقة بكونها العصر الحجري، وعصر الثورة الصناعية، وعصر التنوير. وكما كان عشرات الملايين يكسبون رزقهم من تعدين الفولاذ وقطع الخُشب وزراعة المحاصيل، فإن ملايين مضاعفة يكسبون رزقهم اليوم من البيع والشراء استناداً إلى المعلومات. لكن المشكلة تكمن في أن المعلومات ليس كلها لها مصداقيتها. ومن ثم، فإن التحدي الذي يواجهونه هو كيفية فصل المعلومة النافعة عن المعلومة الضارة؛ إنها مشكلة «الثقة»، أحد أكثر المفاهيم البشرية وضوحاً وغموضاً في الوقت ذاته.
تقوم حياتنا نحن البشر على مفهوم «الثقة» الذي لا يزال بمعظمه فلسفياً أكثر من كونه علمياً (على اعتبار أن المعرفة تظل فلسفةً في أحد تعاريفها طالما ينقصها البرهان العلمي). فأنت تثق ضمناً أو صراحةً في المؤسسة المالية، وفي رب العمل وبزميلك في الشركة وبالناس الذي تتعامل معهم يومياً. من دون الثقة، لن تقبل الفواتير التي تصلك، ولن تتعامل بالعملة التي ليس لها قيمة بذاتها، ولن تذهب إلى العمل مقابل وعدٍ بدفع راتبك نهاية الشهر. وأنت مثلاً «تثق» بأن طفلك الذي أرسلته ليلعب مع أطفال الجيران لن يتعرض لأذى، وأنك لن تُقتل في حادث سير في أثناء قيادتك اليومية لسيارتك، وأن البناء الذي تسكنه لن ينهار فجأة، وأن البقّال لن يضع السم في الخضراوات التي اشتريتها توّاً، إلخ هذه السلسلة. من أين أتت هذه "الثقة" بأن كل ذلك لن يحدث مع أنها واردة، أليست كذلك؟
وما الاضطرابات التي شهدناها في الأشهر الأخيرة خلال أزمة كورونا، ومظاهرات السود حول العالم، وحتى حملة مقاطعة الإعلانات التي قادتها البراندات العالمية ضد فيسبوك؛ سوى أحد مظاهر فقدان الثقة بالحكومات والمؤسسات بما فيها الإعلامية والرقمية.
والثقة؛ على ندرتها، لم تكن موضوعاً بشرياً محضاً. فمن بين 8.7 مليون نوع بيولوجي عاش، ويعيش على الأرض، هنالك حفنة من الثدييات تعد على أصابع اليد الواحدة، التي تنسج «الثقة» مع خيوط علاقاتها الاجتماعية. في الواقع تتجلى الثقة بأبهى صورها لدى مجتمعات أخرى من غير البشر.
عندما يصل الليل أوجه؛ ويحل الظلام دامساً، يخرج الخفاش مصاص الدماء في جماعات بالمئات بحثاً عما تيّسر من الدماء. وليست أي دماء؛ يريدها طازجة نقية عَرْفَة! فبأنفه الذي حباه الله ببعض حكمته يحدد أفضل موضع من الجلد، فيشقه بأسنان نبيلة في حدتها، حتى لا تكاد الفريسة تشعر بألمٍ، ليتدفق الدم قانياً رقيقاً بفعل لعابه الذي يعتبره العلماء أعجوبةً طبية في التمييع. وفيما يفعل ذلك كله، يدرك عميقاً في قرارة نفسه أنه لن ينام الليلة جائعاً، لأن مجتمعاته قائمة على «الثقة» بين أفرادها. يحتاج هذا النوع من الخفافيش كل 48 ساعة إلى ما لا يقل عن 20 غراماً من الدماء كي يبقى على قيد الحياة. وأمام معضلة ندرة الغذاء، طوّرت آلية الثقة فيما بينها. فعندما يفشل أحدها في الحصول على وجبة دم، فإن أفراداً في المجموعة يتبرعون بما يكفيه للبقاء على قيد الحياة.
حسناً، ألسنا نحن البشر أولى بهذه الثقة العمياء!
كصحفي، كنت أقف دائماً مشدوهاً أمام «الثقة»؛ أمام تلك "الطاقة" التي تدفعني يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وسنة بعد سنة إلى قراءة نيويورك تايمز وواشنطن بوست.. إلخ. كيف جعلت هذه الصحف القراء يثقون بما تنشر؟ كيف جعلتهم قرّاءً مخلصين إلى هذا الحد في زمن يتسم بـ«الإرهاق الخبري» News Fatigue و«تجنب الأخبار» News Avoidance؟
في أبريل 2018، أطلقت جوجل آناليتيكس خدمة مجانية للمواقع الخبرية أسمتها News Consumer Insights، وقد أطلقت النسخة الثانية الأكثر تطوراً قبل أسابيع. الخدمة كانت بسيطة في الواقع؛ فهي عملياً لا تقدم سوى نقطة في بحر البيانات التي تمتلكها، وتقوم على فرز القراء إلى فئات: قراء عابرون Casual Readers، وقراء مخلصون Loyal Readers، وعشّاق البراند Brand Lovers الذين يستهلكون الأخبار 90 ضِعْفاً مقارنة بالقراء العابرين؛ تخيل المكاسب التي يمكن حصدها بإطلاق العنان لهؤلاء! لكن الخدمة لا تقدم سوى تفاصيل صغيرة في الصورة الأكبر؛ فهي لا تجاوب على: متى يتحول القارئ العابر إلى عاشق للبراند، وكيف؟ والحال أن عملية التحول هذه تتم عبر عملية بناء إنسانية معقدة للثقة، على خلاف الخفافيش التي تعتمد على غريزتها.
الصحافيون أدركوا جبروت «الثقة» منذ زمن بعيد، لذلك رفعوا وبإجماع شعار «الحقيقة أولاً»، لكنهم اختلفوا حول ما الذي تعنيه الحقيقة؟ وهنا يحضرني شعارا الجزيرة والعربية: الحقيقة الكاملة / وأقرب إلى الحقيقة، على التوالي؛ ليرسما وجهتي نظر مختلفتين في رؤية ما يُسمى بـ«الحقيقة.»
وكان الصحفيون الأوائل؛ أولئك المراسلون في المجتمعات ما قبل الكتابة، مطالبين بالدقة والوثاقة في نقل المعلومات. فالأخبار التي يحملونها كانت مسألة حياة أو موت، لذلك كان القادة يحتاجون إلى المعلومة الدقيقة ما إذا كانت القبيلة المعادية على الجانب الآخر من التل تستعد للهجوم. لكننا نحن الصحفيين المحدثين سنتعلم أن "الحقيقة الصحفية" تعني أكثر من مجرد الدقة. سنتعلم أنها عملية فرز مستمرة تتم بين القصة بمعلوماتها الأولية، وذاك التفاعل فيما بين الجمهور وصنّاع الأخبار والصحفيين.
وإن المبدأ الأول للصحافة - سعيها غير المتحيز نحو الحقيقة - هو في نهاية المطاف ما يميز الصحافة عن أشكال الاتصال الأخرى. فالحقيقة ليست كاملة أبداً، إنما في طور التشكل دائماً مع كل قصة جديدة.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020