في لعنة المعرفة
كيف تتجنب الكتابة الغامضة
معرفة المرء بالشيء تؤثر على انحيازاته تجاه ذلك الشيء، وبالتالي طريقة استجابته له والتي غالباً تترجم إلى سوء تقدير للموقف.
2.4.21
رشاد عبد القادر
صحافياً، تعني "لعنة المعرفة" عدم قدرة الصحافي على استيعاب أن القارئ لا يمتلك المعارف التي يمتلكها هو نفسه. والمشكلة تنبع أساساً من أن المرء كلما عرف شيئاً نسي الصعوبات التي واجهته في معرفة ذلك الشيء.
وُلِدنا جميعاً رواةَ قصص. نثرثر حول شخصيات فعلت كذا وذهبت إلى كذا بسبب كذا. نتحدث مع أصدقائنا طوال الوقت بحماس وحيوية. نروي حكايات عن الآخرين، نعجب بهم أحياناً ونستلهمهم، أو ربما نأنف منهم أحياناً أخرى ونغتابهم. لقد وُلِدنا نحن البشر بهذه المهارة التي يسميها علماء الأنثروبولوجيا "النميمة".
بحسب هؤلاء، فإن "النمائم" هذه قد قدحت زناد «التاريخ». قبلها كنا نعيش مرحلة ما قبل ولادة التاريخ؛ تفسير أفعال البشر الذين سبقونا من أبناء عمومتنا من النياندرتال وغيرهم اندرج في حقل علم البيولوجيا مثلما هو الآن حال دراستنا لسلوك الحيوانات. مع اختراع "النميمة" التي هي أصل الصحافة، حلّت الروايات التاريخية محل النظريات البيولوجية كوسيلة أساسية في تفسير تطور البشر. فمثلاً، لم يعد منطقياً لفهم ظهور الإسلام أو اندلاع الثورة الفرنسية دراسة التفاعل بين الجينات والهرمونات والمتعضيات، بل من الضروري دراسة الأفكار والتصورات والتخيلات.
إذا كنا بطبيعتنا مجبولين على القصص، فلماذا نحن الصحافيون نكاد نكون أسوأ رواة لها مع أنها بضاعتنا الأساسية التي نعرضها في سوق القراء! تُنشر يومياً بضعة ملايين من القصص الصحافية عالمياً، فكم قصة تستوقفك قراءتها مثلما تستوقفك قصة تسمعها عن المدير في أثناء الاستمتاع بتدخين سيجارة مع زميل في استراحة عمل؟ في الواقع إنها قليلة.
لماذا قليلة؟ لأن الكتابة فعل غير طبيعي كما يقول تشارلز داروين. نعم، نحن البشر لدينا ميل غريزي إلى التحدث، منذ الأشهر الأولى للولادة نبدأ في المناغاة، بل إن الكلمة المنطوقة أقدم من الإنسان العاقل نفسه. في المقابل، الكلمة المكتوبة اختراع حديث لم يُتح له الزمن الكافي كي يدخل ضمن تركيبتنا الجينية. لذلك تجد أن الكتابة مهارة يتطلب اكتسابها الكثير من الجهد والوقت طوال فترة الطفولة وما بعدها، يتطلب الكثير من القراءة ثم القراءة.. فهي عملية تعلُّم تستمر مدى الحياة.
الكلام والكتابة مختلفان تماماً في آلياتهما، وينطويان على أنواع متباينة من العلاقات الإنسانية. الكلام المنطوق غريزي؛ كُتبتْ شفرته في جيناتنا منذ الأزل. فبغض النظر متى وأين وُلدتَ، ستتعلم التحدث بلغة أو أكثر من بين نحو 6 آلاف لغة حول العالم. ولا يهم عرقك، فحتى لو وُلدْت لأبوين عربيين ستتكلم اليابانية بيسر إذا تبنّتكَ أسرة يابانية مثلاً. ليس هذا فحسب، في أي محادثة نجريها، نتواطأ ضمنياً مع الشخص المقابل على قواعد للحديث. عندما نتكلم معه، يكون لدينا سلفاً فكرة عمّا يعرفه وما قد يهتم بمعرفته، نراقب عينيه ووجهه وموقفه. إذا احتاج إلى توضيح فعلنا، أو إذا كان لديه شيء يضيفه قطعَ مسار الحديث ليقول ما يريد. كل ذلك يجعل المحادثة حية وشيقة.
في الكتابة، لا نتمتع بأي من هذه المزايا. فالقراء غير مرئيين ومبهمين، وعلينا أن نصل إليهم دون معرفة الكثير عنهم أو عن ردود أفعالهم. ما لا يدركه معظم الصحافيين، أن الكتابة في جوهرها تظاهر، عندما نكْتُبُ نكتبُ لقراء موجودين في أذهاننا فقط، نتظاهر بأننا في عالم مفترض، نتحادث مع قراء مفترضين. لذلك فإن الكتابة الجيدة غالباً تنبع من تلك القدرة على بناء تصور واضح لمحاكاة يتفاعل فيها الكاتب بشخصيته الأفاتار Avatar مع أسئلة وتعليقات القراء بشخصياتهم الأفاتار. هذا ما يفعله الروائيون طوال الوقت، وإلا كيف يستطيعون معايشة أدوار مختلفة لشخصيات رواياتهم! حتى إن أهم كتاب عن الأسلوب عنوانه: The Reader Over Your Shoulder من تأليف روبرت غريفس ومساعده آلان هوج، أي كيف تكتب، وأنت تنظر بطرف عينك من فوق كتفك إلى القراء المفترضين الذين يجلسون بجانبك، ويتحدثون معك وتتحدث إليهم كما في أي جلسة واقعية. الصحافي الجيد يتقن استخدام تقنيات رواية القصة شفاهاً في الكتابة.
الأمر ليس بهذه البساطة. إذ ثمة احتمالات كثيرة لإجراء مثل هذه المحاكاة ودرجة انغماس الكاتب فيها. فالانغماس العميق في المحاكاة قد يجعل النص «متذاكياً» يستخفُّ بعقول القراء. والبقاء على السطح قد يجعل النص مبهماً في ظاهرة تسمى «لعنة المعرفة» أو افتراض معرفة القارئ بما يدور في ذهن الكاتب (سنأتي إليها بعد قليل). حتى الأسماء المشهورة من كُتّاب وشعراء وروائيين يفشلون أحياناً في المحاكاة. للخروج من هذه المعضلة يقترح الناقدان الأدبيان فرانسيس نويل توما ومارك تورنر نموذجاً سمّياه «الاستايل الكلاسيكي»، ويستعرضانه في كتاب صغير رائع بعنوان «واضح وبسيط كالحقيقة».
يفترض «الاستايل الكلاسيكي» أن الكاتب والقارئ متساويان معرفياً، إذ لا يوجد طرف متعالٍ على الطرف الآخر. ولكن الكاتب يستطيع رؤية شيءٍ ما، حَدَثَ أن القارئ لا يشاهده، ربما بسبب زاوية النظر أو وجود حاجز يعيق نظر القارئ (أو أي سبب آخر)، ومهمة الكاتب مساعدة القارئ بتوجيه نظره إلى الزاوية الصحيحة ليشاهد ذلك الشيء بعينيه، مسترشداً في كل ذلك بالوضوح والبساطة.
حسناً، أحسب أني فشلت في طرح الفكرة بوضوح وبساطة على الأقل في الفقرة السابقة. لا ضير في ذلك. هل حدث أن قرأت جملة أو عبارة أو صورة شعرية جميلة ثم حلفت بأغلظ الأيمان -بينك ونفسك- أن الجمل والعبارات ذاتها كانت على طرف لسانك وبالجمال ذاته إن لم يكن أكثر! هذا ما يفعله «الاستايل الكلاسيكي»، يجعلك تكتشف «الحقيقة» بنفسك. فالكاتب يعرف «الحقيقة» سلفاً قبل صياغتها في جمل وعبارات، والنص الذي يكتبه ليس استعراضاً لما يدور في ذهنه، فهو لا يتبجح أو يحاجج بأنه يكشف «الحقيقة». بل يفترض أن القارئ يتمتع بالكفاءة العقلية التي يحتاجها للتعرف على «الحقيقة» عندما يراها، وكل ما عليه فعله هو إزاحة الحواجز التي تحجب القارئ عن رؤيتها.
هذا ما كان يجري معي في كل مرة أقرأ أو أسمع كتاب «النبي» لجبران خليل جبران. ولا أبالغ إذا قلت إنني سمعته عشرات المرات بصوت الممثل والمغني الأيرلندي ريتشارد هاريس في تسجيل كاسيت حصلت عليه م ن أحد الأصدقاء قبل 25 عاماً. لقد كان جرعة أتناولها كل ليلة عن طريق المسجل الصغير قبل الخلود إلى النوم. وفي كل مرة كان جبران يساعدني على إزالة الحجاب عن جزء من «الحقيقة»؛ تلك الحقيقة التي تملأ ثنايا كتابه وتسري رعشة توقف شعر الجسم.
والحال، أن الأدب كان مدخلاً لتيار في الصحافة سُمّي فيما بعد الصحافة الأدبية أو السردية، ابتدأه الصحافي والروائي البريطاني جورج أورويل بمقالة كتبها خلال رحلة استشفاء من مرض السل في المغرب عام 1939 بعنوان «مراكش»، وأُسيل حولها الكثير من الحبر. وفي الستينيات وجد هذا التيار زخماً ليتوج في عام 1973 بكتاب نشره توم وولف بعنوان «الصحافة الجديدة» وهو مجموعة من المقالات المختارة، وكان بمثابة البيان رقم واحد أو مانفيستو الصحافة الأدبية. مشكلة وولف أنه كان يروّج حينها لموت الرواية الأدبية القائمة على تخيل الأحداث والشخصيات، وأن الصحافة الأدبية ستحل محلها بأحداثها وشخصياتها الحقيقية. لم تمت الرواية، لكن استعارة تقنياتها في الصحافة استمرت.
أدى تطبيق تقنيات السرد في الكتابة الصحافة إلى إنتاج بعض القصص الأكثر إثارة خلال العقود القليلة الماضية. فبدلاً من «الراوي» الغامض mysterious الموثوق authoritative كلَّي المعرفة omniscient في صياغة الأخبار -وهو حال صياغة الخبر في معظم منصات الصحافة العربية- تلجأ الصحافة السردية إلى بناء القصة مشهداً بعد مشهد لأن الصحافي يكون متواجداً (مجازاً) على «الأرض» حيث يدون الملاحظات، ويجري المقابلات والحوارات المعمقة مع الشخصيات المنخرطة في الحدث المعني. ويُروى الحدث من وجهة نظر الشخص الثالث أو ما يُسمى في اللغة العربية ضمائر الغائب: هو، هي، هم، ما يساعد الكاتب على تقديم شخصيات متعددة ومستويات مختلفة للسرد والحبكة بالطريقة التي تعمل بها الكاميرا في الأفلام من زووم-آوت وزووم-إن.
ولعل أقرب مثال حديث على استخدام تقنيات السرد الحديثة في الصحافة، ما نشرته «واشنطن بوست» عن اللاجئ السوري مازن الحمادة الذي قرر العودة إلى سوريا. فعلى مدار أكثر من 3500 كلمة وفيديوهات وتسجيلات صوتية أُعِدت خصوصاً لهذه المادة، تتنقل الصحافية ليز سلاي من مشهد إلى مشهد، ومن زووم-آوت إلى زووم-إن، لتضع السوريين أمام الصورة الأكبر لمأساتهم، راسمةً مصاير أولئك الذين تحولوا إلى بقايا بشر تطاردهم أشباح الانتقام بعد أن أنهكتهم الحرب على مدار 10 سنوات، وأولئك الذين استطاعوا الفكاك من أسر الماضي وبدؤوا حياة جديدة في أوطان غير وطنهم الأم.
ليز سلاي، الصحافية البريطانية المتمرسة التي كانت أيضاً وراء انتشار صورة آلان الكردي، تمسك بيد القارئ وترشده خطوة بخطوة، عبر سرد آسر، ليستكشف بنفسه البقعة المناسبة للنظر إلى حقيقة ما خلفته الحرب في سوريا. ويكفي أن تقرأ الفقرات الأولى لتعرف أنك أمام مادة صحافية عظيمة:
بجسده النحيل ووجهه المسكون ودموعه الغزيرة، أصبح مازن الحمادة رمزاً لمعاناة ضحايا التعذيب السوريين. بعد هربه من سوريا إلى هولندا، سافر كثيراً وروى للجمهور في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا قصصاً عن الفظائع التي تعرض لها خلال اعتقاله بسجن في دمشق.ثم فجأة، وفي خطوة غامضة عصية على التفسير، لا بل ربما في خطوة انتحارية، عاد قبل نحو عام إلى سوريا، ليخاطر مجدداً بالوقوع في قبضة حكومة وحشية كان قد شجبها بشدة. اختفى مازن منذ ذلك الحين، تاركاً وراءه أسرة وأصدقاء هالهم تفسير الدافع لأ ن يُقدم رجل مثقل بندبات جروحه الماضية على العودة إلى أحضان جلاديه، وما يخشونه هو دخوله مجدداً في كابوس نظام السجون في سوريا.
ففي هذه الفقرات الأولى، تحدد سلاي ثلاثة من أهم عناصر السرد التي ترسي قواعد رواية القصة. فهي أولاً تضع النغمة Tone (أو موقف الكاتب من القصة التي يسردها أو جوها العام)؛ وهي هنا تهيئ القارئ -كما في أي محادثة شفهية- بأنه سيقرأ (أو إذا شئت: سيسمع) قصة جديرة بالقراءة: تعرض لفظائع في التعذيب، مع ذلك قرر العودة بملء إرادته لحضن جلاديه. هذا وحده كفيل بجعل أذن القارئ منتصبة لمعرفة المزيد.
ثم تضع المنظور Perspective والصوت Voice (بمعنى مَنْ يرى ومَنْ يتكلم في القصة)، فهي لن تسرد القصة من وجهة نظرها الأمر الذي قد يرمي بظلال الشك حول دوافعها، بل أسرته وأصدقائه الذين هالهم تفسير ما جرى. وفي غضون ذلك فإنها ستؤدي دور الراوي الذي يساعد القارئ على فهم واستيعاب الأحداث الدرامية التي ستتكشف أمامه، لتبنى في النهاية الصورة الأكبر التي لا يراها عادة المنخرطين في الحدث.
وكثيراً ما تأسرني فكرة «الصورة الأكبر» عندما أقرأ لصحافيين أجانب جاؤوا من أراضٍ بعيدة وثقافات مختلفة إلى مناطق صراعات معقدة مثل سوريا، مع ذلك فهم قادرون على فهم «القضية» التي يطرحونها أكثر من أصحاب القضية أنفسهم. وأتذكر دائماً، عندما عصي عليّ فهم الإسلاميين الذين عايشتهم عن قرب لسنوات، نصيحة صديق يعتبر نفسه إسلامياً سابقاً أنْ أقرأَ كتاب «زمن الصحوة» لستيفان لاكروا، ومعلقاً: إنه يفهم الإسلاميين أكثر من فهم الإسلاميين لأنفسهم. وكان كذلك فعلاً.
كيف يفعلون ذلك؟ لأنهم غير ملوثين بـ«لعنة المعرفة» The Curse of Knowledge، وهو عنوان فصل كامل لأحد أهم الكتب عن الاستايل الكتابي بعنوان The Sense of Style من تأليف ستيفن بينكر. و«لعنة المعرفة» بالأصل مفهوم اقتصادي ظهر عام 1989، وبات يُستخدم في طيف واسع من المشكلات النفسية لدى البشر، ومفاده أن معرفة المرء بالشيء تؤثر في انحيازاته تجاه ذلك الشيء، ومن ثم طريقة استجابته له التي غالباً تترجم إلى سوء تقدير للموقف. في أسواق المال، كثيراً ما يفضي معرفة المضارب بتفاصيل سوق الأسهم إلى سوء تقدير في الأسهم التي ينبغي شراؤها.
صحافياً، تعني «لعنة المعرفة» عدم قدرة الصحافي على استيعاب أن القارئ لا يمتلك المعارف التي يمتلكها هو نفسه. والمشكلة تنبع أساساً من أن المرء كلما عرف شيئاً نسي الصعوبات التي واجهته في معرفة ذلك الشيء. ومن ثم فإن معرفته تؤثر في «انحيازاته» بافتراضه أن القارئ يعرف، في حين أن القارئ في الواقع لا يعرف، لذلك تخرج القصة الصحافية غامضة وركيكة.
وأخيراً، ينجح الصحافي الأجنبي في كتابة قصة عن سوريا مثلاً، لأنه غير «ملوث» بالمعرفة المسبقة لتفاصيل هذه القصة. إنه كطفل يُدهش عند معرفة شيء لأول مرة، وقادر على نقل هذه الدهشة إلى القارئ. أليس رواية القصص هدفها أصلاً الإدهاش!
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.