خرج من منزله، ولم يعد
مقاتل من أجل الحرية في مواجهة أخيرة وسط صراعات السلطة المتغيّرة في سوريا
عبدو عبد المنان عبد الله في شقته في مساكن الواحة في السفيرة
4.12.24
رشاد عبد القادر
قصة تدور أحداثها في ديسمبر 2024، توثق سقوط حلب والتحالفات المتشابكة التي شكلت مصير المدينة. في قلب هذا الفوضى، يقف مقاتل حرية مسنّ، كان يأمل أن يتجاوز معارك الماضي، لكنه دفع الثمن الأغلى عندما طرقت الحرب بابه مجدداً.
لم يكن مسلحاً. لم يكن عسكرياً. لم يكن مؤيداً للنظام. ولم يكن مؤيداً للإسلاميين. أراد العيش بهدوء في شقته بحي «مساكن الواحة» بعد تقاعده إثر جلطة دماغية، وبعد تفرّق عائلته العفرينية في جهات الأرض.
لم يكن هذا حاله دائماً. كان مقاتلاً وشرساً، حلِمَ يوماً بسوريا مختلفة؛ سوريا قابلة أن تكون للجميع، وأمضى السنوات بسبب ذلك في سجن صيدنايا، قبل 37 عاماً، عندما كان «أبو محمد الجولاني» يتهيأ في حي «المزّة الفيلات الشرقية» بدمشق ليكون رائداً في «طلائع البعث».
عندما استيقظ في الصباح، كان هو كما هو. لكن القدر وضعه وجهاً لوجه مع رجال الجولاني:
الزمان: صباح 1 ديسمبر/كانون الثاني 2024.
المكان: مساكن «الواحة» على بُعد 1.5 كم من معامل الدفاع العسكرية في «السفيرة» جنوب مدينة حلب.
كان «الثوّار» أو «عملاء تركيا» (التسمية تختلف بحسب تموضعك) قد سيطروا على حلب في 29-30 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بعد أن انهارت في غضون يومين، وفرّ مَنْ كان يفترض بهم حماية المدينة، إلى حي «الشيخ مقصود» شمال حلب، وآخرون فرّوا جنوباً باتجاه «السفيرة».
وجدَ هؤلاء «الثوار» أو إذا شئت «العملاء»، أن معركة «ردع العدوان» التي أعدّوا لها العدة منذ أشهر، كانت أسه ل مما تصوّروه. فقرروا التوسع بمطاردة الفارين نحو «السفيرة»، للسيطرة على معامل الدفاع أولاً، ثم إكمال طريقهم باتجاه حماة لضم أكبر بقعة جغرافية تحت سيطرتهم. وذلك بعد أن فتح مقاتلو «قسد» الطريق بانسحابهم مساء 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، من بلدتي «تل عرن» و«تل حاصل» اللتين تفصلان بين حلب و«السفيرة»، لتقديم المساندة لحيي «الشهباء» و«الشيخ مقصود».
وجد عبدو نفسه فجأة أمام رجال الجولاني. كان حي «الواحة» خالياً تقريباً، فقد فرّ الأهالي تحسباً. لكن يبدو أن عبدو لم يخف مثل غيره. ليس لديه ما يخيفه. إنْ كان القادمون «ثوّاراً» مناهضين للأسد، فقد سبقهم إلى ذلك بأربعة عقود، وإذا كانوا إسلاميين، فلا بدّ أن اسمه وحده «عبدو عبد المنان عبد الله» سيشفع له، وإن كانوا إسلاميين ومناهضين للأسد فما شأنهم برجل قد هرم وأبيضَّ شعر رأسه وشواربه، وبالكاد يستطيع الوقوف على رجليه. فالجلطة الدماغية عندما لا تقتلك، تتركك شبحاً.
لكن في الحروب الأهلية التي تتنازعها الطوائف والعصابات، الرجال لا يعودون رجالاً، والقيم تنهار. حتى «روابط الأسرة الواحدة تصبح أضعف من روابط التحزّب؛ المتحزبون يمضون في أقصى درجات التطرف مهما كان السبب تافهاً. لا يأبهون بالقوانين، كل ما يريدونه هو الوصول إلى السلطة بإسقاط النظام القائم. وهم يثقون بعضهم بعضاً ليس بسبب الأخوة الدينية أو العلاقة الاجتماعية؛ بل لأنهم شركاء في الجريمة.» هذا ما كتبه المؤرخ اليوناني ثيوسيديديس قبل 2455 عاماً واصفاً الحرب الأهلية في «كوركيرة» الإغريقية إبان الحرب البيلوبونيزية، وكأنه شاهد على العصر.
على الأرجح، لم يكن عبدو مطّلعاً بما فيه الكفاية على شخصية الجولاني. لم يمهله المرض. لو فعل، ربما اختلفت حساباته.
يُعرف الجولاني بتحولاته الكثيرة واستراتيجياته الملتوية. فقد كان تابعاً لأبي بكر البغدادي، ثم انقلب عليه. ارتبط بتنظيم القاعدة، ثم انفصل عن أيمن الظواهري مرة أخرى، وقدم نفسه كزعيم «وطني» يسعى لبناء دولة. تكيّف دائماً مع المتغيرات السياسة والحرب، وأعاد تشكيل «هيئة تحرير الشام» لتبدو و كأنها حركة ذات طابع «وطني»، وركز على الإدارة المحلية بدلاً من الجهاد العالمي، وحاول لفت أنظار الدول التي تنظر إليه بعين الشك.
استطاع خلال السنوات الأربعة الماضية، إعادة إنتاج صورته، بأنه رجل قادر على بناء دولة. وقد اختبر سياساته في بناء المؤسسات في شمال غرب سوريا؛ مؤسسات كثيرة تعتمد على فكرة الاكتفاء الذاتي وإدماج المختلفين محلياً. وأثبتت فعاليتها مقارنة مثلاً بتجربة «الإدارة الذاتية» ذات الإمكانات المادية والعسكرية الأكبر في شمال شرق سوريا. لقد تعامل مع الأمر في أنه باقٍ في المكان، فيما تعامل القائمون على «الإدارة الذاتية» على أنهم طارئون على الجغرافيا، وأن «روجآفا» مجرد مرحلة عابرة إلى الهدف الأكبر في كردستان تركيا. حتى عندما دخل الجولاني إلى حلب، وفي فوضى المواجهات، كان أكثر تنظيماً، وفتح القنوات مباشرة مع سكان المدينة لتلقي الشكاوى العاجلة، وبدأ بتزفيت الشوارع وإنارتها، وضخ الكهرباء إلى المنازل، وأرسل مقاتليه لحماية البنوك من النهب، وطمأن المسيحيين، وعرض مروراً آمن للمسلحين الكرد للخروج من حلب بأسلحتهم. إنه يتصرّف ببراغماتية واضحة ليحصل على الشرعية التي يحتاجها. كان يعدّ العدة لذلك منذ زمن، عندما أبلغ مقاتليه في أبريل/نيسان الماضي، أنهم سيحتفلون بعيد الفطر القادم في حلب. وهو الآن قد سبق وعده بأربعة أشهر.
لكن على المدى البعيد، لن يستطيع الجولاني الخروج تماماً من جلده. فإدارة حلب تختلف عن إدارة منطقة ريفية محافظة مثل إدلب، وسيكون عليه التكيف أيديولوجياً مع السكان الأكثر تعددية ديموغرافياً وثقافياً. وقد فشل مقاتلوه في أول اختبار لهم عندما أفرغوا رصاصهم في جسد عبدو عبد المنان عبد الله من دون سبب، وأرسلوا صورة جثمانه إلى ابنه في هولندا. كانوا يدركون أنه مختلف عنهم، وأنه من عفرين التي احتلوها، وأرادوا إخفاء الجريمة بالجريمة.
من دون شك أن الجولاني في إعادة إنتاجه لنفسه، كان بجزء منها توجهاً نحو السلفية التكنوقراطية، وبجزئها الآخر، مناورة علاقات عامة لإقناع الأطراف الخارجية بأنه لم يعد يشكل تهديداً لأحد باستثناء الرئيس بشار الأسد ومن يحاول إنقاذه. حتى مناصريه العلمانيين قد انطلت عليهم الحيلة. فقد تابع الجولاني ما جرى في أفغانستان من كثب، وأراد أن تصبح «هيئة تحرير الشام» صيغة ألطف وأكثر تسامحاً من طالبان، وأن يدفع بالدول إلى التعامل معه كسلطة أمر واقع، وربما الاعتراف به. لِمَ لا؟ إذا كانت طالبان تستطيع الذهاب إلى موسكو والجلوس إلى طاولة الرئيس فلاديمير بوتين، رغم حظره لها بكونها كياناً إرهابياً، قد يتمكن هو أيضاً يوماً ما من تحقيق حلمه بالتوجه إلى روسيا بوصفه سلطة أمر واقع. فهو يرى أنه ليس فقط أفضل من الجهاديين الذين يخرجون بحثاً عن دماء الأبرياء لسفكها، بل في حالة حرب معهم.
ولا بد أن هذه الصور تواردت إلى ذهن بوتين لدى استقبال الأسد في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 الكرملين، عندما جاءت الأخبار عن قرب سقوط حلب، بدلاً مما كان ينتظره عن قرب سقوط كييف. ولا بدّ أنه تمعّن في ضيفه طويلاً، وكيف أنه خسر في ساعات ما قد بنته روسيا طوال سنوات. ولا بدّ أيضاً أنه لم يكن سعيداً.
فبوتين سيدخل بعد أشهر إلى السنة الرابعة من الحرب في أوكرانيا التي كان من المفترض أن تنتهي في غضون أسبوعين. وقد أصبح الآن يعتمد على المقاتلين الأجانب لتعويض الخسائر العسكرية التي يُعتقد أنها تزيد عن 700,000 جندي روسي. ومنذ شباط/فبراير 2022، مع بدء غزو أوكرانيا، قلّصت روسيا تواجدها في سوريا، وألغت دور مجموعة «فاغنر» المرتزقة بعد تمردها قبل عام، وأزالت بعض منصات الدفاع الجوي الأكثر تطوراً. كل ذلك، فيما تشهد واشنطن عملية تغيير الحرس بين إدارة الرئيس جو بايدن المنتهية ولايته، والولاية الثانية للرئيس دونالد ترمب.
لا شك في أن بوتين يوازن المشهد الآن، وهو يرى انهياراً شبه كامل للقيادات العسكرية في سوريا، وانهياراً في سيطرتها ومعنوياتها، لدرجة أنها غير قادرة حتى الآن على إعادة تجميع صفوفها أو شن هجوم مضاد. ويتطلع إلى الرئيس رجب طيب أردوغان الذي وجد الفرصة سانحة، وأعطى الضوء الأخضر لعملية «هيئة تحرير الشام»، لتحسين أوراقه في المفاوضات القادمة على طاولة انسحاب ترمب من شمال شرق سوريا، بعد فشل محاولاته مع دمشق في التفاوض حول المصالحة والتطبيع.
بوتين أيضاً، لديه شكاوى من الأسد. رغم ما قدمه له، لا يزال الأسد يضع إيران على سلّم أولوياته وهي دائماً الخطة «أ»، بينما يتعامل مع روسيا على أنها الخطة «ب». لقد ضاق ذرعاً بذلك. وتتمثل أحد التفسيرات في بطء التدخل الروسي، في أن أردوغان قد أبلغ بوتين مسبقاً بعملية «هيئة تحرير الشام»، وأنها ستكون محدودة، كوسيلة لإجبار الأسد على التعامل مع تركيا بجدية وتقديم التنازلات والإصلاحات. نعم، بوتين وأردوغان خصمان قويّان، لكن علاقتهما مبنية على ازدراء مشترك للولايات المتحدة والغرب، واحترام متبادل يزداد كلما تفوق أحدهما على الآخر. وقد قدّم الجولاني بتقدمه السريع، مفاجأة لبوتين، وهدية غير متوقعة لا تقدر بثمن لأردوغان. ويبدو أن كليهما، رغم خلافاتهما التي صُنعت بالنار والفولاذ، يريدان أن يجبرا المشاكس في دمشق على الركوع على ركبتيه.
ليس ذلك فقط. لقد استولت تركيا على المنطقة الشمالية الغربية المفككة من سوريا، وأعادت تجميعها من جديد، وشكّلتها على الصورة التي تريدها. فالبنية التحتية الاقتصادية بالكامل، والرعاية الصحية، والتعليم، والأهم من ذلك، الخدمات الأمنية، كلها أُنشئت بدعم تركي وتدار بتدخل كبير منها.
لم يكن الأسد ليعترف حتى الآن بمدى سيطرة تركيا على ما كان في السابق أراضيه ومواطنيه. وقد خاض حرباً أهلية دموية للحفاظ على سيطرته الكاملة على البلاد التي يعتقد أنه ورثها عن أبيه. ولم يكن تقاسم السلطة وارداً في أجندته.
لكن أردوغان أيضاً ليس في وارد أن يسلّم الأسد كل ما بناه طوال أعوام. لذا فإن الفكرة الرومانسية لدى السوريين المناصرين لعملية الجولاني، في أن تركيا قد تعقد صفقة معهم، وتسلمهم كل ذلك بناء على مفهوم السيادة الدولية، أمر يدعو إلى الضحك. تركيا كانت تنظر دائماً إلى سوريا على أنها «شام شريف». فقد كانت عاصمة الأمويين، والنقطة التي يتجمع فيها المسلمون قبل توجههم إلى مكة في موسم الحج. وقد أنقذتها من نفسها عندما دفع سكان دمشق المسلمون بمدينتهم إلى دائرة جهنمية على خلفية «التنظيمات» العثمانية (فرمان الكلخانة)، بالهجوم على أحياء المسيحيين عام 1860، وإحراقها بالكامل، وقتل كل من وقع تحت أياديهم. وقتها، جازفت الدولة العثمانية بكامل ثقلها، وأهملت التمردات العديدة في مناطق مختلفة من جسم الدولة، وأرسلت وزير خارجيتها فؤاد باشا الذي أقام في دمشق على مدار ثلاثة أشهر حاسب خلالها المتمردين السنة، وعاقب مسؤولين بالشنق والرمي بالرصاص، ووضع خطة لإعادة بناء أحياء المسيحيين بفرض ضريبة على المسلمين. ثم أعلنت بعد ذلك ولاية الشام وعاصمتها دمشق بالضد من الحجة القوية التي قدمتها بيروت لتكون هي العاصمة.
تبدو تركيا مهذبة في تصريحاتها الرسمية، لكنها لا تحترم السيادة السورية إلا بقدر احترام الروس للسيادة الأوكرانية. والأفكار الرومانسية التي تراود السوريين لن تحدث أبداً. أردوغان لا يتخلى عن الأرض. فهو دائماً، يحافظ على مكاسبه، ويزيد قوته، وينتظر اللحظة المناسبة، ثم يتوسع.
وهو يدرك أن تركيا أكبر قوة متاخمة لسوريا. وهي منخرطة بالقوة العسكرية والاقتصادية والديموغرافية في هذا الصراع أكثر من أي طرف آخر. ويدرك أيضاً أنه بقليل من الصبر، وتحقيق المكاسب التدريجية سيحصل في نهاية الأمر على ما يريد. وإن لم يفكر الجولاني كعادته في تغيير ولاءاته، فإن الاصطفاف الحالي يصب كله في صالح أردوغان، وأصبحت أوراق اللعبة بيد السلطان الذي ينفر منه الفاعلون في سوريا جميعاً.
عندما استيقظ عبدو عبد المنان عبد الله صباح 1 ديسمبر/كانون الأول في شقته بمساكن «الواحة» في «السفيرة»، لم يكن يدرك هذه التشابكات كلها. لم يُرد ذلك. وربما ذكّرته الأشجار التي تطلّ عليها نافذته جهة الغرب بأشجار الزيتون في مدينته عفرين. ربما تذكّر أنه وُلِد، وتربّى، وكبر، ودرس، وسُجن، وأُطلِق سراحه، وعمل، وتزوج، وخلّف أطفالاً هم بدورهم كبروا، وهُجِّروا من قبل الفصائل ذاتها؛ الأيديولوجيا ذاتها، والانتقام ذاته الذي سيقتل والدهم بدم بارد، وعلى مرأى الجميع، وبصيحات «الله أكبر».
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020