تمرين في اللغة
الكتابة الصحافية الجيدة «صنعة» وليست «فناً»
المنتَج الذي تبيعه للقارئ ليس القصة التي تكتبها، إنما تبيع نفسك ككاتب.
3.5.21
رشاد عبد القادر
الكتابة الجيدة لا تأتي بالفطرة. والجملة الواضحة ليست من قبيل المصادفة، إذ نادراً ما تأتي من المحاولة الأولى أو الثانية أو حتى الثالثة. إذا وجدت الكتابة صعبة، تذكّر هذا في لحظات اليأس: ذلك لأنها بالفعل صعبة.
خلال 20 عاماً من العمل الصحافي، قرأت معظم «كراسات التحرير» العربية، وقرأت الكثير من الكتيبات التي تشكو كثرة الحشو وقلة الإيجاز وسيادة الإطناب والتكرار؛ قرأت كتباً في اللغة العربية والبيان والبلاغة والأسلوب، وكتباً تُعِد بكشف أسرار الكتابة الصحافية، ولم أجد ما يساعدني عملياً على أن أكون كاتباً جيداً.
الكتابة الجيدة لا أسرار فيها؛ لأنها ببساطة شاقّة. فالكاتب الجيد يشعر بالعزلة؛ لأ نه يقف وحيداً قبالة الصفحة البيضاء؛ ويشعر بالعجز لأن الأفكار لا تريد أن تخرج من رأسه؛ ويشعر بالتوتر لأنه يحاول أن يضع جزءاً من ذاته على الورقة أمامه، وغالباً ستخرج ذاتُه تلك متخشّبة لا تشبه روح الكاتب فيه. ولا بأس بذلك كله، فالكتابة الجيدة لا تأتي بالفطرة. والجملة الواضحة ليست من قبيل المصادفة، إذ نادراً ما تأتي من المحاولة الأولى أو الثانية أو حتى الثالثة. تذكّر هذا في لحظات اليأس، إذا وجدت الكتابة صعبة، وذلك لأنها بالفعل صعبة.
فالكتابة الصحافية الجيدة «صنعة» وليست «فناً». ولحسن الحظ ثمة أدوات لذلك. هل يمكن تدريسها؟ ربما لا، لكن يمكن تعلّم معظمها بالعمل الدؤوب. واعلمْ أن المؤسسات الإعلامية العربية لن تمنحك وقتاً كصحافي، إنْ بقيت أسير ذلك فلن تكتشف في نفسك الكاتب الذي تريده. بدلاً من ذلك، عليك أن تجرّب العمل على فكرة وإن استغرقت أسبوعاً أو أسبوعين، فإذا استصعبت ذلك جرّب إعادة صياغة قصة نشرها غيرك، وأعجبتك.
وقبل أن تفعل ذلك، عليك أن تعقد «صفقة» بينك وبين نفسك: المنتَج الذي تبيعه للقارئ ليس القصة التي تكتبها، إنما تبيع نفسك ككاتب؛ مَنْ أنت؟ قبل أيام كنت أقرأ باهتمام مقالاً مطولاً على فيسبوك كتبه صديق -لا يطرح نفسه كاتباً- عن مروحية «إنجينويتي» على سطح المريخ. ما شغلني أكثر هو الحماسة التي يكتب بها عن الطائرة الغريبة في تلك الأرض الغريبة، وشاركني في ذلك بضع مئات من المتفاعلين معه. هذه هي الصفقة: الكتابة الجيدة تبث ذلك «الدفء» الذي يجعل القارئ يقرأ فقرة بعد أخرى، باستخدام أكبر قدر من الوضوح والقوة في اللغة.
وإليك هذا التمرين الذي عملت عليه..
اخترت قصة من أحد أفضل المواقع العربية صحافياً، وطبقت عليها أدوات من كتاب On Writing well by William Zinsser وكتاب Writing Tools by Peter Roy Clark .
انتبه إلى هذه النقاط..
زمن القصة: استخدام صيغة الحاضر بدلاً من الماضي أداة تغمر القراء بآنية الأحداث. وترتيبها في مشاهد يساعد القارئ على فهم الدراما التي تجري أمامه، فطبيعة الدماغ لدى البشر تختبر القصة بالتسلسل عند قراءتها لأول مرة. فيما بعد، قد يبرز الدماغ عند تذكر القصة بعض المشاهد بطريقة غير متسلسلة.
البساطة: كلما ازداد عدد العبارات والكلمات التي يمكن حذفها، تحسنت الكتابة. فالكتابة الجيدة هي أن تنظّف العوالق بكل جملة وتحولها إلى مكوناتها الأساسية تمهيداً لإعادة بنائها. احذف كل عبارة لا تخدم وظيفة معينة، وكل كلمة طويلة يمكنك أن تستبدلها بأخرى قصيرة، كل ظرف أو ضمير أو حرف جر زائد، فهذه العوالق -وما أكثرها- تضعف قوة الجملة. ولا تستخف بمعارف القارئ اللغوية، فهو يعرف أكثر مما تظن. عدوك الأول ركام الكلمات، فحاربه بقلب لا يرحم.
الأفعال: استخدم الأفعال كلما كانت هناك حركة. ضعها مع الفاعل (ظاهراً أو مستتراً) في بداية الجملة والعبارة، وتجنب صيغة المصدر وحوّلها إلى فعل كلما أمكن ذلك (مثال: توزيع، يوزع). الأفعال القوية تخلق الأكشن، وتساعد على اختصار الكلمات، وتكشف للقارئ أدوار اللاعبين في القصة. (انظر الفقرة الثانية في الأصل تضم 3 أفعال حركة، بعد التعديل ستجد 8 أفعال).
النص الأصلي:
عام 1987، أطلقت شركة جهينة لمنتجات اللبن والزبادي والعصائر أول حملاتها الإعلانية بالتزامن مع توزيع أولى عبوات اللبن الكرتونية التي تحمل رسمًا لبقرة تضع في فمها -بدلال- زهرة برية.
بحسب متعاونين مقربين من الشركة، خلال أعوامها الثلاثين، تمكنت جهينة من إعادة صياغة صناعة الألبان والعصائر في مصر، والتوسع والتنوع في إنتاجها، لتبدأ في العام الجاري تصنيع ألبان نباتية، لتصل بمنتجاتها إلى إجمالي 200 منتج يتم توزيعها في مصر وتصديرها لعدد من الدول الإفريقية والعربية والأوروبية.
صفوان ثابت، مؤسس الشركة ورئيس مجلس إدارتها حتى استقالته في يناير من العام الجاري بعد نحو خمسة أسابيع من توقيفه من قبل الدولة، اختار الاسم تيمنًا باسم بلدة والدته «عرب جهينة» التابعة لمركز شبين القناطر بمحافظة القليوبية، والتي يحبها كثيرًا.
وفي مثل هذه الأيام من شهر رمضان عام 2014، كان صفوان ثابت وعدد من رجال الأعمال يشاركون الرئيس عبد الفتاح السيسي إفطار رمضان والحديث عن آلية دعم الاقتصاد الوطني، بالتبرع بخمسة مليارات جنيه لصندوق تحيا مصر، كان نصيب ثابت منها 50 مليون جنيهًا.
لكن، بعد فترة لم ينقطع خلالها رئيس مجلس إدارة شركة جهينة للصناعات الغذائية عن التبرع للصندوق، خرج صفوان ثابت من قائمة رجال الأعمال الوطنيين وانضم إلى قائمة الإرهابيين، في تحول جذري نحاول أن نفهم أسبابه في هذا التقرير.
النص المعدل:
إنه عام 1987. تطلق الشركة الناشئة «جهينة» لمنتجات الألبان والعصائر أول حملة إعلانية، فتوزّع عبوات لبن كرتونية تحمل رسماً لبقرة تضع في فمها -بدلالٍ- زهرة برية.
و«جهينة» هذه اسمٌ سيختاره مؤسس الشركة صفوان ثابت العائد حديثاً من السعودية، حبّاً في بلدة «عرب جهينة» بمحافظة القليوبية، التي أنجبت والدته خالدة حسن الهضيبي ابنة المرشد الثاني لـ«جماعة الإخوان المسلمين»، وشقيقة المرشد السادس مأمون الهضيبي.
سيمرّ أربعة وثلاثون عاماً سريعة؛ ستعيد «جهينة» خلالها صياغة صناعة الألبان والعصائر في مصر، وستحقق أرباحاً متصاعدة، وستنوّع في الإنتاج، وتبدأ هذا العام بتصنيع ألبان نباتية أيضاً، ليصل عدد منتجاتها إلى 200 نوع، توزّعها في مصر وتصدرها إلى دول عربية وإفريقية وأوروبية.
وفي رمضان 2014، سيشارك صفوان ثابت رجالَ أعمالٍ آخرين مائدةَ إفطارٍ أعدها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وسيتبرع بـ 50 مليون جنيه من أصل 5 مليارات جمعها صندوق «تحيا مصر» في ذلك اليوم دعماً للاقتصاد الوطني.
لكن في يناير 2021، سيدور الزمان دورته، ويستقيل ثابت من شركته بعد 5 أسابيع من توقيفه قضائياً، ليتحوّل من «رجل أعمال وطني» مقرّب من السلطة ودائم التبرع للدولة والمشاريع الخيرية إلى أحد «الإرهابيين» المعادين للدولة، فكيف جرى كل ذلك؟
وأخيراً، تعلَّم السباحةَ داخل الكلمات لتشاهدها من الداخل إلى الخارج، عندها لن تعرف فقط المعنى الحرفي للكلمة، بل ارتباطاتها ودلالاتها أيضاً. وما أجمل اللغة العربية في ذلك. كثيراً ما أقف أمام قوة التنكير كيف تضفي بُعداً كونياً على الكلمة، أو قوة المفرد الذي يكون بمعناه أكبر وأعظم من الجمع أحياناً! انظرْ إلى المعاني التي ينقلها هذا التعديل البسيط من فَعَلَ إلى أَفْعَلَ: بَصَرَ وأَبْصَرَ، سَقَيْتُ وأَسْقَيْتُ، شَرَقتْ وأَشْرَقتْ، رَعَدَتْ وأَرْعَدَتْ، لتدرك أن الكاتب الجيد يكون جيداً عندما يعيش داخل الكلمات لا أن تعيش الكلمات بداخله.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020