ترتيب الكلمات في الجملة
في العربية، الجملة «حرة» لا تكاد تخضع لنظام معين في ترتيب الكلمات
حُسْن الجُمْلَة هو ما يجعلنا نقف عندها؛ نكررها سرّاً -ربما- عشرات المرات.
26.9.22
رشاد عبد القادر
لم يحظَ نظام الجملة العربية بالدراسة الكافية لدى نحاة «عصور الاحتجاج» الذين أرسوا قواعد اللغة. فلا تجد بين كتبهم الكثيرة، كتاباً عن الجملة العربية، أو حتى فصول من كتاب.
الحبكة لا يمكن لها أن تكون أبسط من ذلك: خِرْنِقٌ صغيرٌ يلقي تحية ما قبل النوم: «ليلة سعيدة»، على الأشياء والكائنات الحيّة في غرفته العملاقة ذات الجدران الخضراء، إلى أن يأخذه النعاس شيئاً فشيئاً، فيستسلم للنوم مع تخافت الأضواء تدريجياً، وظهور القمر بدراً في النافذة الكبيرة.
الجمل بسيطة أيضاً. والحال أنّ محاولة فهم نظام بناء الجملة العربية، قادتني إلى الكتاب المعنون «Goodnight Moon». ويصادف هذا الشهر، الذكرى 75 لصدوره، بعد أن شهد تعثّراً في سنواته العشر الأُوَل، ثم ليبدأ باحتلال مكانته الأدبية تباعاً إلى أن أصبح ما لا يمكن الاستغناء عنه في البيوت التي اُبْتُليت بأطفالٍ يجافيهم النوم.
والكلمات بسيطة. فالكتاب بأكمله 131 كلمة؛ وإذا حذفنا المكرر منها، لَاِنْتَصَفَ العدد. مع ذلك، يباع منه سنوياً 800 ألف نسخة بسعر 8 دولارات للقطعة الواحدة. ومجمل ما بِيعَ منه حتى الآن يفوق 50 مليون نسخة. العدد كبير. والمبلغ أكبر. يا لحُسْن حظ ابن الجيران الذي سجلت الكاتبة مارغريت وايز براون باسمه حقوق الملكية. لم تعمّر طويلاً. فقد توفّيت بعمر 42، بعد 5 سنوات من صدور كتابها هذا.
وحُسْن الجُمْلَة هو ما يجعلنا نقف عندها؛ نكررها سرّاً -ربما- عشرات المرات. فما الذي يجعل جملةً ما ذات حُسْن؟ ما الذي يجعل ذاك الطفل يستمع إلى «Goodnight Moon» كل ليلة؛ يستمتع به في كل مرة، يهدأ بعد صخب، ينعس، ثمّ ينام؟ كيف تنتقل جُمْلة ما من «البيان إلى التبيين» from clarity to grace؟ الجواب بالتأكيد ليست «القصة»، فالكتاب ليس بقصة. وليس أيضاً «معاني» الجمل. لو كان كذلك، لَمَلّ الطفل في القراءة الثانية أو الثالثة أو السابعة بعد التمكّن من معانيها. كما أن المعاني ذاتها يمكن التعبير عنها بأكثر من طريقة في بناء الجُمَل. فلماذا هذه الجملة بعينها هي التي تستوقفك، تجعلك تتأمّل، ثم أحياناًـ تستولي عليك؟ قبل أيام سألني صديق عن جملة «إننا محكومون بالأمل،» آخذة بمجامع قلبه، ليجد فيها معنى جديداً آنياً بعد 26 عاماً من ولادتها على لسان سعد الله ونوس في كلمته بيوم المسرح العالمي.
الجُمَل هكذا؛ تُولَد ثم أحياناً تكبر وتكبر مع السنين. مع ذلك لم يحظَ نظام الجملة العربية بالدراسة الكافية لدى نحاة «عصور الاحتجاج» الذين أرسوا قواعد اللغة. فلا تجد بين كتبهم الكثيرة، كتاباً عن الجملة العربية، أو حتى فصول من كتاب. كل ما لدينا إشارات سريعة متناثرة، إلى أن جاء عبد القاهر الجرجاني، بنهاية «عصور الاحتجاج»، ليولي ـولأوّل مرّة- «نظام بناء الجملة» كامل عنايته في كتابه «دلائل الإعجاز». ويتناول نظام الجملة في التقديم والتأخير مع الاستفهام والنفي والخبر المثبت، وفي الفصل والوصل، وفي القصر والاختصاص.. وما إلى ذلك.
لكن الجرجاني فُهِمَ خطئاً بأنّه يتحدّث في شيء آخر غير قواعد اللغة، فجاء من كمّل عمله كالسكاكي والخطيب القزويني والسبكي، ليؤسسوا ما أسموه بـ«علوم البلاغة». ومنذ ذلك الحين أصبح «حُسْن الجملة» شيئاً ما خارج قواعد اللغة؛ إلهاماً غامضاً، وحياً يمتاز به كاتب دون آخر من دون سبب معلوم.
ليس ذلك فحسب، فقد لجأ البلاغيون إلى تفسير الظواهر اللغوية خارج نظام اللغة، وعزوا مثلاً تقديم المسند إليه أو تأخير المسند إلى شواهد معينة كالتمكن في ذهن السامع، والتعجيل بالمسرّة أو المساءة، أو الاستلذاذ والتعظيم والتحقير وغير ذلك. وباتت لـ«المعاني» حياةٌ خارج اللغة؛ في أذهان السامعين أو في مقاصد المتكلمين. والحق، أنه لإدراك ما في اللغة من حُسْن وجمال ينبغي دراستها لغوياً، ولا يأتي ذلك دائماً من اللغويين. إن أفضل تقنيات الكتابة وأدواتها اللغوية في الإنكليزية، جاءت من الكُتّاب أنفسهم بالتركيز على الأساليب المختلفة في بناء الجملة أوّلاً. الجرجاني نفسه في كتابه «دلائل الإعجاز»، بانشغاله في بناء الجملة، كان مُتكلِّماً، فيلسوفاً، أديباً ناقداً أكثر من كونه لغوياً.
لننظر إلى هذه الظواهر اللغوية:
استخدام صيغة الماضي للتعبير عن حدث مستقبلي: (أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)؛ أي سيأتي.
وهنا استخدام صيغة الماضي للتعبير عن الحال: (وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)؛ أي لا يزال.
وهنا استخدام صيغة الحاضر للتعبير عن حدث ماض: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)، أي ما تلت. واللافت هنا توالي فعلين أحدهما في صيغة الماضي والآخر في صيغة المضارع لحدث واحد.
وهنا: (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، أي قتلتم.
وبمجرد أن نبدأ بفصل صيغة الفعل عن الزمن، وكيفية ترتيب الكلمات في الجملة، سريعاً ما ندرك مواطن الحسن والجمال في اللغة. ويسهب الدكتور إبراهيم أنيس في شرح ذلك في كتابه «من أسرار اللغة». ولعلّ التعريف الذي وضعه للجملة؛ الأمر الذي اختلف فيه الأقدمون، هو الأكثر نضجاً: الجملة في أقصر صورها هي أقل قدر من الكلام يفيد السامع معنى مستقلا بنفسه، سواء تركب هذا القدر من كلمة واحدة أو أكثر. فإذا سأل القاضي أحد المتهمين قائلاً: مَنْ كان معك وقت ارتكاب الجريمة؟ فأجاب: زيدٌ، فقد نطق المتهم بكلام مفيد في أقصر صورة.
لندرس قليلاً مطلع مادة «Poisoned» التي فازت بجائزة بوليتزر عام 2022 عن فئة التحقيقات:
داخل مَصْهَر الرصاص الوحيد في فلوريدا، تتكاثر السموم.
الكادميوم. الزرنيخ. ثاني أكسيد الكبريت.
لكن الرصاص هو الأكثر تفشيّاً.
فالغبار المحمَّل به يخيّم كضباب كثيف مخترقاً مبنى المصنع حيث يفتح العمال بطاريات السيارات المستهلكة بشقِّها، يستخرجون الرصاص ويصهرونه في فرن تصل حرارته إلى نحو 1500 درجة. الرصاص المصهور يُعاد تشكيله وبيعه للشركات التي تص نع بطاريات جديدة ومنتجات أخرى.
مئات العمال تعرَّضوا لكميات هائلة من السمّ المخرِّب للأعصاب.
والعواقب كانت وخيمة.
إليك التعليق:
«داخل مَصْهَر الرصاص الوحيد في فلوريدا، تتكاثر السموم.»
الجمل تتحدى قوانين الفيزياء، فمركز الثقل يكون في بداية الجملة أو نهايتها. انتبه كيف أعاد الكاتب ترتيب الك لمات بوضع «تتكاثر السموم» في نهاية الجملة.
«الكادميوم. الزرنيخ. ثاني أكسيد الكبريت.»
هذه المواد الكيميائية لا تحتاج إلى شرح، فأسماؤها وحدها كافية لبث القشعريرة في الأجسام. كل كلمة مكتفية بذاتها. جملة بحد ذاتها. انتبه أيضاً أنها جاءت في فقرة وحدها.
«فالغبار المحمَّل به يخيّم كضباب كثيف مخترقاً مبنى المصنع حيث يفتح العمال بطاريات السيارات المستهلكة بشقِّها، يستخرجون الرصاص ويصهرونه في فرن تصل حرارته إلى نحو 1500 درجة. الرصاص المصهور يُعاد تشكيله وبيعه للشركات التي تصنع بطاريات جديدة ومنتجات أخرى.»
مهمة الصحافي أن يجعل الأشياء غير المألوفة مألوفة، وهذا ما تفعله هذه الفقرة، تكشف الوقائع المخفية والمخيفة. انظر أيضاً إلى الأفعال/المصادر: يخيم، محمَّل، مخترق، يستخرج، يصهر، يعيد تشكيل.
«مئات العمال تعرَّضوا لكميات هائلة من السمّ المخرِّب للأعصاب.»
تقديم المسند إليه «مئات العمال» جاء في مكانه الصحيح، إنّهم العنصر الإنساني في القصة، وهم الضحايا.
«والعواقب كانت وخيمة.»
الجمل القصيرة وقعها أقوى من الجمل الطويلة، فأهم الأفكار تأتي عادة في أقصر الجمل. وهذه الجملة الأخيرة تختصر كل شيء بثلاث كلمات.
اللغات في العالم تنقسم إلى قسمين:
اللغات ذات «الجملة المستقرة» كالألمانية والفرنسية والإنكليزية. فليس للمتكلم بهذه اللغات أن ينتقل بالكلمة من مكانها المعين في الجملة. هذا لا يعني أنها جامدة، فأي لغة لا تكاد تخلو من نوع من المرونة في ترتيب كلماتها. واللغات ذات «الجملة الحرة» كالإغريقية واللاتينية، فهما لا تكادان تخضعان لنظام معين في ترتيب الكلمات. ومع ذلك فهي ليست حرة على نحو مطلق. فانتقال الكلمات داخل الجملة يخلق اختلافاً في المعنى.
العربية أقرب لهذه المجموعة الأخيرة. لذلك على الصحافي الجيّد ألّا يكتفي بالعثور على أفضل الكلمات، بل عليه ترتيبها داخل الجملة أفضل ترتيب. فنَظْم الكلام وترتيب الكلمات، كما يقول الجرجاني، أشبه بنظم اللؤلؤ والجواهر في سمط نفيس.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020