اللعبة التي علمتني سرد القصة
صناعة الفيديوهات تتحول من الإيقاع السريع إلى الحكايات القائمة على الشخصيات
القصص هي المحرك الذي يمد كل يوم في حياتنا، وكل ساعة بالطاقة والأمل.
12.4.24
رشاد عبد القادر
نحن نتابع الأخبار لنتعرف على الوقائع، ونحصل على المعلومات، لكننا ننجر إلى القصص المرة تلو المرة؛ لأننا نحتاج إلى معرفة ما يعنيه تموضعنا داخل تلك الوقائع والمعلومات.
كان المشهد في ذلك اليوم غير عادي.
استيقظت باكراً كالعادة. ساعات الصباح الأولى تمر بسرعة، في نشاطات روتينية متتالية، غالباً لا روح فيها. الجري نصف ساعة على مسار الممر بنوافذه الضيقة العالية، الذي يشرف عليه 10 مهاجع من هذه الجهة، ويمتد نحو 80 متراً، ثم ينعطف يميناً إلى ممر قصير (20 متراً) يؤدي بدوره إلى ممر مواز على الجانب الآخر، يضم أيضاً 10 مهاجع أخرى في سجن صيدنايا العسكري الذي صُمّم، يا للمفارقة، على شكل شعار سيارة المرسيدس بثلاثة أجنحة. صفٌ طويل من السجناء السياسيين؛ كهولٌ بات الشطر الأعظم من الحياة خلفهم، ورجالٌ يأبون التقدم في العمر، وشباب مقبلون على الحياة في مكان لا حياة فيه، يمضون الوقت بالركض على إيقاع واحد، حتى إن خبطات عشرات الأرجل على أرضية الممر، تكاد تكون خبطة رجل واحد لا تزعج النائمين حتى وقت متأخر من الصباح. يستمرون هكذا إلى تنضح أجسادهم بالعرق، بطعمه المالح كرائحة ثور أطلَقْتَه في قطيع أبقارٍ توّاً بعد انقطاعه دهراً من الزمن. يقومون بعدها بممارسة التمارين ورفع الأثقال في الممر القصير. ثم يواصل عدد قليل منهم في ممارسة تمارين اليوغا، ربما ساعة إضافية. يلي ذلك الاستحمام بالماء البارد وتناول الفطور المتواضع، ويبدأ اليوم.
قبل بضعة أشهر من ذلك، كنت قد بدأت أيضاً التدرب على لعبة الشطرنج. حصلت على كتاب من تأليف أحد أبطال العالم الروس، وخطوة بخطوة، تعرّفت على الافتتاحيات ومزاياها، تعلمت عن النهايات وكيفية الفوز فيها أو كيفية إجبار الخصم المتقدم على قبول التعادل. تعرفت أيضاً إلى مميزات القطع ومكمن قوتها مق ارنة بالقطع الأخرى. كنت لا أزال في بداية الطريق، وقد اعتبرته تمريناً عقلياً بعد التدريب البدني. إذا لم تُشغل نفسك بأمر ما، فإن سنوات السجن الطويلة ستأكل منك شيئاً فشيئاً، إلى أن تصير غريباً عن نفسك، وقد تفقدها للأبد.
كانت الساعة قد اقتربت من الظهيرة عندما توجهت، ربما إلى المهجع الخامس، لم أعد أتذكر. فهذه المباراة الرابعة التي سألعبها في دوري شطرنج ينظمه الجناح سنوياً؛ وهي المباراة الأصعب مع معتقل كان أحد أهم اللاعبين، وسبق أن أحرز على ما أذكر إحدى البطولات المهمة قبل السجن. لم أكن قلقاً، ليس لدي ما أخسره. ففي نهاية الأمر انضممت وللمرة الأولى إلى الدوري كتكملة عدد لا أكثر. غالبية السجناء كانوا يفتقرون إلى الطاقة اللازمة للمشاركة في الدوري. الشعور بالقلق كان يملأ الأجواء، بسبب الجلسات الأخيرة في محكمة أمن الدولة العليا التي ستقرر مصيرهم.
لم نعتد في سوريا على إجراء محاكمات للسجناء السياسيين. الاعتقالات تجري دون محاكمة، وكان من الممكن أن يقضي السجين سنوات طويلة في المعتقل، 10، 15، 20، قبل إطلاق سراحه بموجب عفو، أو بسبب مرض عضال بمنزلة حكم بالموت رسمياً. كنت قد قضيت خمس سنوات في السجن، عندما قررت السلطات، لسبب ما بعد معركة الخليج الثانية وتحرير الكويت عام 1991، ولأول مرة في تاريخها الحديث، الشروع في محاكمة السجناء السياسيين. ومع أنها محكمة أمنية لا تخضع للقضاء، إلا أن السجين يعرف على الأقل عدد السنوات التي سيقضيها في السجن، ومتى سيُطلق سراحه. الأمر الأنكى، والأكثر ثقلاً وكمداً في السجن ألا تعرف ما إذا كنت ستخرج يوماً، ومتى سيكون ذلك اليوم؛ كان مثل سفينة تاهت في الفضاء، وانقطع اتصالها بالأرض. كل ما يمكنك سماعه هو «همهمة» تبقي الأمل حياً بأن الحياة لا تزال صاخبة على الجانب الآخر، لكنك لا تعرف إنْ كنت ستعود إليها يوماً.
على عكس توقعاتي، فزتُ بالمباريات الثلاث الأولى، مع أن الدوري كان مقتصراً على اللاعبين ذوي الخبرة فقط. وكدت أن أخسر في الثانية التي كانت الأصعب، لكنني تمكنت من الفوز بفضل مناورة الوزير (الملكة)، المعروفة أيضاً باسم مناورة حلب، جرياً على اسم اللاعب الشهير فتح الله الشطرنجي الحلبي. إنها إحدى أقدم المناورات، وقد اكتسبت شعبية في القرن الثامن عشر، ووصلت إلى ذروتها قبل مئة عام. من أصل 34 مباراة في بطولة العالم 1927، اُفتتحت جميعها بهذه المناورة باستثناء اثنتين. وأُعيد التذكير بأهميتها في مسلسل The Queen's Gambit الذي عرضته نتفليكس عام 2020. تقوم المناورة في افتتاحية اللعبة على التضحية ببيدق للحصول على أفضلية استراتيجية في توزيع القطع على رقعة الشطرنج.
لأكون صادقاً، لم أكن متعمقاً في اللعبة مقارنة بالآخرين في الدوري. كان ثمة أسماء كبيرة تُعدّ شيوخ اللعبة في السجن. عندما وصلت إلى المهجع الخامس، كان البطل السابق قد أنهى توّاً وجبة الفطور؛ فقد استيقظ متأخراً. هو أيضاً لم يكن قلقاً، فأنا مجرد «جَدْيٍ يريد مناطحة تُيُوس» على حد تعبير أحد السجناء. في هذه المرحلة، كانت أصداء الدوري قد انتشرت، وبدأت أعداد متزايدة تتابع المباريات، فثمة لاعب غير متوقع على الساحة. ولإضفاء المزيد من الحماسة، بدأت المراهنات التي غالباً كانت تدور حول وجبة طعام، أو سجائر، أو ضرب «متة» أو كأس شاي. في النهاية، لا بأس ببعض المتعة في حياةٍ كانت الرتابة فيها قاتلاً، في انتظار جلسات المحكمة الأمنية، التي كانت فسحة لمشاهدة سكان الكرة الأرضية من النافذة الضيقة للسفينة التائهة في الفضاء؛ بالأحرى، شاحنة اللحوم التي كانت تقلنا إلى المحكمة. فكامل احتكاكنا بالعالم الخارجي لم يكن إلا من خلال زيارات كل شهرين أو ثلاث، ولا تدوم أكثر من نصف ساعة من خلف شبكين يفصل بينهما مترين على الأقل. كانت الأخبار تصلنا من خلف الشبك في الجهة المقابلة حيث يقف الأهل، كأنها صفعات خاطفة متتالية. لم يكن ثمة وقت للشرح. تتلقى الخبر/الصفعة بصيغته البدئية من دون تمهيد يربطه بسياق. فهذا قد توفي والده أو والدته، وذاك تركته زوجته أو حبيبته، وآخر تزوجت ابنته التي كانت لا تزال في ذاكرته طفلة. في السجن يتوقف كل شيء. يتوقف الزمن أولاً، ثم يتوقف الشعور، ويتوقف الإحساس، وتتوقف الذاكرة. كنا نسميه «الثلاجة». حتى النمو الطبيعي لجسم البشر يأخذ مساراً مختلفاً تماماً.
وفي حين أنه لا ينبغي أن يُسجن البشر، بسبب الرأي، إلا أنه لم يكن كل شيء فيه سيئاً. فبقدر ما يحجز من حريتك؛ حرية الاختيار، بقدر ما يحررك من سلطته. كنتُ متحرراً من سُلطة المال؛ فقد كنا نعيش حياة جماعية. كنتُ متحرراً من سُلطة الثياب، فأية قطعة ثياب تفي بالغرض. كنتُ متحرراً من سُلطة الطعام، هناك ما يكفي لسد الجوع، وإن لم يكن فلا بأس. ومن سُلطة الطبيب والدواء، كان لدينا أطباء يقومون بالمهمة. والأهم من كل ذلك، كنتُ متحرراً من سُلطة المستقبل؛ لا مستقبل في السجن، ولم يكن عليّ أن أقوم بما لا أرغب فيه. صحيح، أن الخيارات محدودة، ولكن من قال إن الخيارات الكثيرة جيدة؟ كنتُ أعيش اللحظة، دون أثقال الماضي، وبلا توقعات المستقبل.
لم يكن خصمي في الشطرنج يكبرني بأكثر من بضع سنين، رغم أنني كنت في حينه ثاني أصغر سجين في صيدنايا، فقد اُعتقلت في سن الـ17، وسيوفر عليَّ ذلك فيما بعد 3 سنوات سجن إضافية لكوني كنت حَدَثاً عند الاعتقال. كان طويلاً بجسم رفيع، يميل بكتفيه جانبياً نحو اليمين قليلاً، وعندما يسير فإنه، فعلياً، يرمي بساقه وذراعه إلى الأمام في الهواء، عوضاً عن جَرِّهما، كما يفعل «شاغي» في مسلسل «سكوبي دو» الكرتوني. إذا دققت النظر، ستجد أن ما يفعله لا يتوافق مع قوانين فيزياء جسم الإنسان. المشي هو في الواقع سلسلة من السقوط المتتالي؛ جرٌّ للأطراف بدلاً من رميها في الهواء. أجمع معظم السجناء أنه لو كانت هنالك قيامة للسيد المسيح، فمن المؤكد أنه سيتجسّد فيه؛ بوجه مشرق وجبين واسع وأنف دقيق ينته بشاربٍ ناعم أشقر ولحية خفيفة متناثرة.
لمحني عند باب المهجع، ابتسم وقال: «أأنت مستعد لتخسر؟» وأتبعها بضحكة معتادة تبدأ بنغمة صوت رفيعة في الجواب، ثم تخبو تدريجياً وبشكل متقطع نحو القرار، إلى أن تتوقف فجأة دون سابق إنذار. قلت له: «مستعد.» جلسنا جانباً على أرضية الممر، وأجرينا القرعة، لحسن الحظ حصلتُ على «الأبيض»، ما يعني أن لدي الفرصة لتحديد إيقاع اللعب. وبطبيعة الحال اخترت الافتتاح بمناورة الوزير، فقد كنت أشعر فيها براحة أكبر وفهم أعمق لاحتمالات رقعة الشطرنج بفضل الكتاب الذي درسته.
السجناء الذين كانوا يسيرون ذهاباً وإياباً تجمهروا تباعاً لمشاهدة المباراة، وخيّم الهدوء على الممر. كان بعضهم يستأنف السير، ويعود مجدداً لمعرفة التطورات. مع بدء اللعبة بتضحية محسوبة بأحد البيادق، طمعاً في السيطرة على وسط الرقعة، أثبتَ خصمي تَمَرُّسُه، وتمكن من إحباط كل محاولاتي لخرق دفاعاته. كان هادئاً ويعرف ما يفعله. في أثناء ذلك، كنت أجاهد مع تعقّد اللعبة، والشك يساورني حول القطعة التي ينبغي تحريكها. كان اللاعبون المتمرسون الذين يتابعون المباراة باهتمام يعون جيداً الخطوة المثلى. ويعلمون أيضاً أن الأفضلية لا تزال بيدي، إن استطعتُ فقط اختيار القطعة الصحيحة للحركة التالية. بالفعل، لم تكن الخيارات المتاحة كثيرة، كان كل مسار أحلّله يؤدي إلى نتائج ليست في صالحي. الغرض من تحريك قطع الشطرنج ليس دوماً لتحسين الموقع، بل في بعض الأوقات يكمن في دفع الخصم إلى أخذ المبادرة، ومن ثمَّ احتمال ارتكاب الخطأ.
كنت أعلم أن الكثيرين من المتجمعين حولنا راهنوا على الانتصار، ولم أكن مستعداً للاستسلام بعد. وعرفت أيضاً، أن هذا الجمهور القليل العدد، قد نسي في هذه اللحظات محكمة أمن الدولة العليا، وشاحنة اللحم بنوافذ صغيرة ضيقة نرى من خلالها بشق الأنفس الناس في الشوارع، وقد نسي أن ليس لديه طاقة، وأن لا مستقبل هناك، وأن مَنْ رحل قد رحل، وأن الزوجات اللواتي تطلقن، والعشيقات اللواتي تركن، لله درّهن، وأن الأطفال قد كبروا، وتزوجوا، وأن لا مال يهم، ولا ثياب أكثر راحة من قمصان الـ«شيّال» الداخلية التي يرتدونها في هذا الجو الحار. وأنهم قد وضعوا كل شيء جانباً، ومن الحق منحهم المتعة التي يستحقون. فما كان يهم، هو هذه اللحظة، هذه الـ«هنا، الآن».
هنا، سأتوقف عن سرد القصة، إذ لا بد لي من الاعتراف بأنني أفتقد أحياناً ذاك العالم. لا أريد السجن بطبيعة الحال، فهو ليس مكاناً صالحاً للبشر، لكنني أفتقد العالم الذي كان فيه. مع تقدمي في السن، أجد صعوبة في التكيف مع الحياة بتعقيداتها التقنية. ليس لأنني بعيد عن التكنولوجيا، بل ربما لأنني أفهمها أكثر مما يجب. ففي نهاية المطاف، أجد أنني أقضي مثلاً، ساعتين أو أكثر يومياً في مشاهدة «تيك توك» الذي صُمِّم بدهاء كي يجعلك تعتقد أن مقطع الفيديو التالي سيكون آخر ما ستشاهده.
وطبعاً لن يكون الأخير.
لا يوجد عيب في هذا. نحن جميعاً نحتاج إلى بعض اللهو للتعامل مع ضغوط الحياة اليومية. ولطالما كان الاعتقاد السائد بين أوساط المبدعين، بأنك إما أن تقدم للجمهور ما يطلبه؛ وهو ما يُسمى الترفيه، أو أنْ تفرض عليه مَطَالب؛ وهذا ما يُسمى الفن.
ففي الترفيه، يتوقع الجمهور مثلاً من الممثلين أداءً مقنعاً وحبكة درامية للقصة. إذا أخفق المخرج في ذلك، فمن المرجح سيتجنبون مشاهدة المسلسل. في الفن، عندما يذهب الجمهور ذاته إلى متحف اللوفر مثلاً، فإنه مُطالب ضمنياً ببذل الجهد لفهم اللوحة أمامه. إن لم يفعل ذلك، فهو مجرد زائر عابر، لا يقدّر الفنون.
مع ذلك، فإن الأمر في الواقع أكثر تعقيداً.
اقتصاديات الإبداع، مثل كل الاقتصادات، لا تسير هكذا. وإذا كنت فناناً، أو تسعى لتكون كذلك، لعلك لاحظت الميزانيات الضخمة التي خُصِّصت لإنتاج الأفلام والمسلسلات والبرامج الترفيهية، منها الجيد، ومنها السيئ، بينما يصعب عليك حتى العثور على صالة تعرض فيها لوحاتك. لماذا؟ لأن صناعة الترفيه قضمت الحصة الأكبر من صناعة الفن.
إلا أن المشكلة لا تنتهي هنا.
حتى وقت قريب، كانت صناعة الترفيه تنمو باطراد، لدرجة أن كل ما كان فناً مستقلاً أو بديلاً، تقلّص باستمرار باعتباره أضراراً جانبية لنمو الترفيه. إلا أننا في السنوات العشر الأخيرة، نشهد ولادة ثقافة جديدة، ثقافة ما بعد الترفيه. فالقطاع الأسرع نمواً هو «اللهو» الذي جاء به «تيك توك». أطلق عليها ما تشاء؛ ثقافة التمرير أو التمرير السريع، ثقافة إضاعة الوقت أو أية تسمية أخرى تراها مناسبة. لكنها بكل تأكيد ليست فناً، وليست ترفيهاً؛ إنما حركة مستمرة بإصبع الإبهام لا تتوقف لمشاهدة مقطع الفيديو التالي.
ومفتاح هذه الحركة المستمرة هو أن كل مقطع فيديو (محفّز) يدوم بضع ثوانٍ فقط، ويليه محفز (مقطع) آخر، نادراً ما يترك أثراً، و يصعب حتى تذكره.
ووفقا للناقد الثقافي تيد جويا، فهي تجارة ضخمة، ويذهب في تحليله لهذه الظاهرة، أن قطاع «اللهو» سيصبح قريباً أكبر من الفنون والترفيه مجتمعين. فكل شيء يتحول إلى تيك توك. فيسبوك تفعل ذلك في «Reels»، وإنستغرام، ويوتيوب، وكل من يطمح إلى الثراء على الشبكات الاجتماعية، ما عدا شخصاً واحداً؛ شخص يصرف معظم ما يحققه من أرباح في إنتاج المزيد من الأعمال التي يحب.
اليوتيوبر جيمي دونالدسون الذي يُعرف بـ MrBeast، لم يكن هكذا دائماً. الحق، كان سابقاً أحد رموز الفيديوهات التي تسمى Retention Edit، أو الفيديوهات التي تُنتج لتحتفظ بالمشاهد بجعله ملتصقاً بشاشته أطول فترة ممكنة. تمتاز بالمؤثرات الصوتية الصاخبة والإيقاع ا لسريع في تحرير الفيديو، وعدم التوقف، حتى باتت الشكل السائد لإنتاج الفيديوهات عبر طيف واسع من اقتصاديات «المبدعين». وتجد أن الفيديوهات كلها باتت متشابهة، يصعب التمييز فيما بينها.
لكن هذه «الفقاعة» يبدو أنها قد وصلت إلى ذروتها، وعلى وشك أن تتغير الآن، وربما إلى الأفضل. ثمة ما يشير إلى أن هذه الموجة قد بدأت تنحسر.
ففي وقت سابق من الشهر الماضي، غرّد دونالدسون، إنه حان الوقت «للتخلص من المحتوى السريع»، وقال إنه في العام الماضي، أبطأ إيقاع الفيديوهات التي كان ينتجها، وركز بشكل أكبر على السرد القصصي، ليتيح الفرصة للمَشَاهِد أن تتنفس، وأن يقلل من الضجيج فيها من خلال فيديوهات أطول، ما أدى إلى قفزة في أعداد المشاهدات.
ولفهم أبعاد ذلك، اِعلم أن دونالدسون هذا لديه أكثر من 250 مليون مشترك في قناته على يوتيوب، وأن عدد المشاهدات لا تقل عن 100 مليون لكل فيديو ينشره، وقفز هذا الرقم الآن إلى 150 مليوناً بعد اعتماد السرد القصصي. وقد اختارته مجلة التايم عام 2023 من بين المئة شخصية الأكثر تأثيراً في العالم. ويصل دخله إلى نصف مليار سنوي من عائدات الإعلانات ورعاية العلامات التجارية.
خوارزميات تيك توك شجّعت المستخدم على الانتقال إلى الفيديو التالي إذا لم ينجذب خلال الثانية الأولى. لذلك تلجأ الفيديوهات التي تُنتج لتحتفظ بالمشاهد، إلى أن تبدأ بصوت عالٍ، لتدفع المشاهد إلى الانتباه، ثم تحاول الحفاظ على هذا الانتباه من خلال رسوم الفلاش والكلمات والمؤثرات الصوتية. وقد أدى ذلك إلى أن قدرة التركيز لدى جيل المراهقين لا تتعدى الثانية الواحدة إذا لم يكن الأمر مسلياً بما فيه الكفاية. وبات ذهنه مشتتاً.
المشكلة في موجة فيديوهات «اللهو» أنه يمكنها أن تستمر للأبد؛ لأنها تعتمد على كيمياء الجسم، وليس على الترند أو الجماليات. فالدماغ يكافئ هذه النوبات القصيرة من اللهو، بأن يُطلق الناقل العصبي مادة الدوبامين ما يشعرنا بالرضا، لذلك نريد للمحفز أن يتكرر. إنها مثل ماكينات المقامرة الآلية بأجراس وصفّارات تبقيك مستمتعاً لأن «الفيديو» مبهرج وصاخب. لا يهم محتواه. وهذا النموذج يعمل بالآلية ذاتها التي يعمل بها الإدمان.
منصات التكنولوجيا الكبرى، أو كارتل الدوبامين، تدرك هذا الأمر. وهدفها الرئيسي والنهائي خلق عالم من المدمنين، تحت مسمى Ecosystem، لأن ذلك سيضمن لها الربح الأكيد. وقد أسهم ظهور الذكاء الاصطناعي الآن في ازدهار هذه الفيديوهات من خلال تسهيل عمليات إنتاجها بأدوات مثل Captions.ai وVeed.io. وصارت الثقافة السائدة هي عدم وجود ثقافة. لكن ماذا يفعل هذا بأدمغتنا؟
كلما اعتمد المدمن أكثر على هذه المحفزات، تناقصت اللذة التي يتلقاها. في مرحلة ما، تخلق هذا الدورة ما يسمى في علم النفس بـ«أنهيدونيا» Anhedonia؛ أو الغياب الكامل للمتعة في تجربة يُفترض أنها مصممة من أجل خلق المتعة. تماماً مثل المدمن الذي لم يعد يجد لذة في المسكنات مع مرور الوقت، لكنه يستمر في تناولها لتجنب الألم الناتج عن نقص الدوبامين في الجسم. وفي مرحلة معينة، يؤدي تناول المزيد إلى المزيد من الألم. وهكذا تدخل أدمغتنا في دائرة جهنمية كردة فعل لحماية أجسامنا. هذا ما جرى مع الكثير من الناس الذين تركوا الشبكات الاجتماعية، بعد محاولات من الإقلاع والعودة.
هنالك الآن، لحسن الحظ، توجهاً بين منتجي الفيديوهات المشاهير إلى السرد القصصي المرتكز على الشخصية، من دون بهرجة، ويحققون مشاهدات أكثر من السابق. لماذا ذلك؟ لأن الجميع ينتج فيديوهات الـ Retention Edit، التي تفتقر للبعد الإنساني، فبدأ الجمهور يفتقد إلى تلك الحميمية التي تقدمها الشخصية.
و«الشخصية»، تعيدني إلى القصة التي بدأت بها حول مباراة الشطرنج. قد تتشابه الافتتاحيات، ولكن لكل مباراة شخصيتها، لا تشبه التي قبلها مهما رجعت بالزمن، ولن تشبه التي بعدها مهما تقدّمت به. تخيّل معي:
لدى كل لاعب 20 احتمالاً ممكناً لافتتاح المباراة (16 احتمالاً بالبيادق و4 احتمالات بالحصانين)
عدد الاحتمالات بعد النقلة الثانية: 400 احتمال.
بعد 3 نقلات، هناك حوالي 8902 احتمال.
بعد 4 نقلات، هناك حوالي 197 ألف احتمال.
بعد 5 نقلات، هنالك نحو 5 ملايين احتمال، وقد يتصاعد هذا الرقم بحسب القطع التي نُقِلَت.
عدد المباريات الفريدة التي يمكن لعبها بالشطرنج لانهائي، وتقدر بما يسمى «عدد شانون» 120^10. كما ترى، هذه الاحتمالات التي تقدمها 32 قطعة على رقعة الشطرنج، فما بالك بعدد القصص على رقعة الحياة. هل تريد الآن أن تعرف كيف انتهت المباراة مع خصمي في المهجع الخامس؟
حسناً، لا أحاول تعذيبك. ربما قليلاً. أريد فقط أن أزيل الستار عن ذلك الغموض، وذاك السحر، وتلك القوة الكامنة داخل محرك الكشف هذا: لماذا ينجذب الناس إلى القصص؟ اسأل نفسك هذا السؤال.
نحن نتابع الأخبار لنتعرف على الوقائع، ونحصل على المعلومات، لكننا ننجر إلى القصص المرة تلو المرة؛ لأننا نحتاج إلى معرفة ما يعنيه تموضعنا داخل تلك الوقائع والمعلومات. على مدى آلاف السنين، أرّخ الإنسان العاقل حياته. فقبل اختراع الكتابة، وقبل شخبطة الكلمات الأولى على ورق البردي، كنا نطحن المعادن، وعظام الحيوانات المتفحمة لنصنع أصباغاً مستخلصة من المُغْرَة والعَنبر والفحم، وكنا نستخدم هذه الألوان البني الضارب إلى الأحمر والأصفر البرتقالي والأسود الفحمي للرسم بالأصابع على جدران الكهوف. كنا نرسم صور أحلامنا، وكنا نوّثق آخر صيد للظباء. القصص هي مسألة بقاء بالنسبة إلينا نحن البشر. إنها الطريق إلى فهم أنفسنا، وإذا لم نتمكن من ذلك، سنضيع. إنها الوسيلة التي بها يتماسك عالمنا الخارجي، والآلية التي بها نتمالك نفسياً. إن القصص هي ذاك النسيج الضام للجنس البشري، بغض النظر عن الموضوع الذي تتحدث عنه. ففي قلب كل قضية، كل حدث، هناك مستوى إنساني يفضي بنا إلى أربع كلمات ربما تكون الأكثر استخداماً في اللغة العربية أو أي لغة أخرى في العالم: ماذا حدث بعد ذلك؟ هذا ما تريد معرفته الآن في قصة مباراة الشطرنج. بمجرد أن ننغمس في أي قصة، تجتاحنا ونريد أن نعرف أكثر. إنه المحرك الذي يمد كل يوم في حياتنا، وكل ساعة بالطاقة والأمل.
في ذلك اليوم، كانت الاحتمالات كلها محفوفة بالأخطار، ما عدا نقلة واحدة لقطعة إلى مربع هامشي، لا تعطيني أفضلية، لكنها لا تحشرني في موقع حرج أيضاً. أخذت وقتاً، لفهم التهديدات المباشرة القائمة على الرقعة، ونقلت القطعة. كان خصمي يدرك ما قمت به توّاً. كانت قطرات العرق بدأت تظهر على جبهته العريضة مثل حبّات الفطر على أطراف حقل في يوم سمائه تبرق وترعد. قام بنقلته، فانفتحت الثغرة، وسرعان ما أدرك أن المباراة قد انتهت عملياً. بعد نقلتين أو ثلاث مد ذراعه اليمنى برويّة، ووضع السبابة على تاج ملكه، ثم ضغط عليه بما يكفي ليدفعه إلى الأمام، ويقع على وجهه قرب الحصان الذي كان يتقدمه، واستسلم. تعالت أصوات «أووووه» بين الجمهور المراقب، وضُربتْ الأكف بالأكف، وشعرتُ بيد تستقر من الخلف على كتفي الأيسر، عندما التفتّ إليه، كان أحد شيوخ اللعبة، قال وهو يبتسم: حَسنٌ فَعلْ. لم يكن لديه خيار.
في ذاك الدوري الذي جرى قبل ثلاثين عاماً، حسمت الأمر في المرحلة السابعة ما قبل الأخيرة. لم أُهزم في مباراة، وكنت الجدي الذي ناطح التيوس، وهزمهم واحداً واحداً. أصدرت محكمة أمن الدولة العليا حكماً بسجني 10 سنوات، ثم خفّضته إلى 5؛ لأنني كنت تحت السن القانوني عند الاعتقال. عند نطق الحكم كنت قد قضيت نحو 7 سنوات في السجن، من 1987 إلى 1994، ومنذ ذلك الحين انتقل من مربع هامشي إلى آخر، دون أن يضرب معي الحظ قطّ.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020