الكتابة تجعلك إنساناً
الكتابة «حرفة» و«موقف».. تعرّف كيف تميز بينهما
يستغرق الاستايل سنوات حتى ينضج ويخرج للقراء
12.5.21
رشاد عبد القادر
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
بعيداً عن «المشاعر الفيّاضة»، تشهد الصحافة في منطقتنا لحظة نادرة تتصادم فيها «الأزمنة المقدسة» مع «الأمكنة المقدسة».
فكم مرّةً في حياتك ستكون شاهداً كصحافي على هكذا «خلطة» اجتمع فيها شباب فلسطيني له سردية من المظالم. يرى يهوداً يصادرون منازلَ في القدس الشرقية، ولا يجد منفذاً قانونياً للمطالبة بأملاكه في القدس الغربية. شباب لا ينتظر التعليمات من قيادته السياسية. ثم أضف إلى الخلطة المناسَبة الأقدس عند المسلمين التي صادفت يوم السبت في «ليلة القدر» في الحرم القدسي. ثم على مسافة بضعة أمتار عند «حائط المبكى»، أضف «اليوم الوطني» المقدس عند الإسرائيليين الذي صادف يوم الأحد في ذكرى احتلال القدس الشرقية. ثم أضف «حماس» التي لا تريد أن تتخلّف عن قيادة «القضية». والسلطة الفلسطينية التي تخشى افتضاح مدى ضآلة سلطتها على الشارع الفلسطيني. ثم أضف الحكومات العربية التي ترى المستقبل في التكنولوجيا الإسرائيلية. وليس لديها لا الوقت ولا الطاقة للدفاع عن «رماة حجارة». ثم أضف البيت الأبيض المنشغل بإحياء الاتفاق النووي مع إيران ولن يدعم حملة قمع واسعة ضد الفلسطينيين. ثم أضف نتنياهو الذي يكاد يعيش آخر أيامه. فجاءت هذه الأحداث بمثابة قشّة يتمسك بها، ويؤججها لقطع الطريق على خصومه في تشكيل حكومة قد تطيح به.
صُدف مجنونة اجتمعت في «خلطة» مرشحة أن تصبح «زلزالاً» يهزّ الجميع بما في ذلك الفلسطينيون، إذا كُتِب لها الاستمرار في الأيام القليلة القادمة وتحولت إلى انتفاضة جديدة. وأمام كل ذلك، تجد صحافة باهتة أسيرة «كلمات» فقدت قوتها بفعل التكرار، وذهبت حِدّتها بفعل الاحتكاك. فالكلمات المفتاحية في النص كائنات حيّة لها مجالها الحيوي. حشرها في مساحات ضيقة يخلق تصادماً بينها بالتنافس على انتباه القارئ، فتتآكل في ظاهرة تسمى Keyword cannibalization. ولا أريد أن أضرب أمثلة هنا، فهي كثيرة.
ما يهمني أكثر، هو تلك الميزة التي يفتقدها الصحافي بوصفه كاتباً. أن تكون كاتباً، عليك أن تجيد أمرين معاً: الأول «الحرفة» Craft، والثاني «الموقف» Attitude. الأول هو مسألة إتقان مهارة دقيقة معينة، والثاني هو كيفية استخدام تلك المهارة للتعبير عن شخصيتك أو «استايلك». في الأول تكتب لـ «قرّاء» مفترضين. وفي الثاني تكتب لإرضاء نفسك.
في الصحافة، كثيراً ما تطغى «الحرفة» على «الموقف» بدعوى «الموضوعية» و«الحياد» و«التوازن». ولكن، هل تتذكر صحافياً حاز جائزة بناءً على هذه المعايير؟ لن تجد طبعاً؛ لأن هذه أدوات مُسلَّم بها، تقع ضمن مساحة «الحرفة» وليس «الموقف»، وتساعد على التعامل مع المعلومات بجمعها وفرزها وعرضها على القرّاء المفترضين. ما ينقص الصحافي «الموقف» أو «الاستايل» الذي يبرز شخصيته، وهو الذي يجعله مختلفاً عن الصحافيين الآخرين.
ليس ذلك فحسب، حتى في التقارير الخبرية التي تُخفي «صوت» الصحافي عادةً، ثمة «موقف» في هذا الإخفاء. انظر إلى العبارات التي تدل على «موقف» الكاتب في تقرير نشرته «نيويورك تايمز» باستخدام الصفات والأسماء والظرف والأفعال المشار إليها بين نجمتين. وانتبه أيضاً كيف يتحسّس الكاتب مدى خطورة الوضع في الأراضي المحتلة.
اشتد أسوأ قتال بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ سبع سنوات ليل الثلاثاء، عندما بدأت الضربات الجوية الإسرائيلية تستهدف مكاتب «حماس» في غزة، وأطلق مسلحون في غزة الصواريخ على مدن تل أبيب وعسقلان الجنوبية والمطار الرئيسي في إسرائيل.
في غزة، قتل ما لا يقل عن 35 فلسطينياً بينهم 10 أطفال، وأصيب 203 آخرون، وفقاً لمسؤولي الصحة. وفي إسرائيل، قُتل 5 أشخاص في ضربات على تل أبيب وعسقلان واللد، وأصيب ما لا يقل عن 100، وفقاً لمسؤولين طبيين.
بعيداً عن النزاع العسكري، انتشرت موجة اضطرابات مدنية في القدس الشرقية في الأحياء العربية، حيث عبر الفلسطينيون في إسرائيل عن غضبهم من عمليات القتل في غزة والشكاوى القائمة منذ فترة طويلة من التمييز العنصري داخل إسرائيل نفسها.
وفي حين أن الضربات المتصاعدة، وهي الأسوأ منذ عام 2014، جلبت معها الخوف إلى الملايين في غزة وإسرائيل، إلا أنها عزّزت مواقف طرفين غير مرغوب فيهما: حماس، الجماعة الإسلامية المسلحة التي تدير قطاع غزة، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
أما حماس، فقد سمح الصراع لها بتجديد مطالبها بقيادة المقاومة الفلسطينية. فقد ظهرت صواريخها بمثابة رد مباشر على غارتين للشرطة الإسرائيلية على مجمّع المسجد الأقصى المقدس لدى كل من المسلمين واليهود. ففي هذه العملية، تقدم حماس نفسها كحامية للمتظاهرين الفلسطينيين والمصلّين في الحرم القدسي.
أما نتنياهو، فإن الإلهاء الذي تسببه الحرب، والانقسامات التي تخلقها بين الأحزاب المعارضة المتباينة التي تتفاوض حالياً على ائتلاف للإطاحة به، تمنحه فرصة ولو هزيلة للبقاء في منصبه، بعد أن بدا قبل أيام فقط أنه أخيراً في طريقه للخروج من السلطة.
ككاتب لا عذر لك في مجال «الحرفة» إذا غادر القارئ في منتصف المادة لأنها ركيكة؛ فإن الذنب ذنبك وحدك. عليك أن تعمل بجد لإتقان أدوات الكتابة في البساطة والإيجاز والترتيب. وهذا عمل ميكانيكي، مع بعض الاهتمام سرعان ما ستصبح جُمَلك أكثر وضوحاً.
أما في مجال «الموقف»؛ ما إذا أحبك القارئ أو أحب ما تقوله وكيف تقوله، أو ما إذا اتفق معك وشعر بالقرب من روحك أو رؤيتك، ليس عليك الاهتمام بذلك. أنت أنت وهو هو، قد تتفقان وقد تختلفان. فبمجرد تغلبك على ذاك الخوف من القارئ، الذي زرعته المؤسسات الصحافية في الصحافيين، ستبدأ بتشكيل هُويتك الإبداعية ككاتب. استرخِ وقلْ ما تريدُ قوله بالطريقة التي تريدها. وبما أن الموقف أو «الاستايل» هو أنت، فكن صادقاً مع نفسك، وستجد أنه بدأ يخرج تدريجياً من تحت الركام والحطام، وسيزداد تميّزاً كل يوم. يستغرق الاستايل سنوات حتى ينضج، أليس الإنسان في بحث دائم ليجد شخصيته؟ إلى ذلك الحين، لن يبقى استايلك ثابتاً، سيتغير مع تقدمك في السن.
«الحرفة» تنزع الشغف عن الكتابة، مع أن الشغف مقوّم أساسي في الاستايل. ولحسن الحظ يمكن استعادته. وإليك الطريقة: الكاتب يحتاج إلى «صَنْعَتين»: واحدة رئيسية؛ وهي الكتابة بطبيعة الحال، والأخرى متشابكة معها تَعجُنها بعجينتها؛ لا يهم ما هي. قد تكون الطبخ، أو المكياج، أو لعبة «البلوت» و«التريكس»، أو الرقص، أو النحت والرسم، أو كرة القدم.. إلخ. والكاتب المحظوظ سيكتشف العلاقة بينهما؛ كيف تؤثر الثانية في الأولى، ما سيمنح لغته طاقة تحويلية.
فكثيراً ما أجد أن الكتابة نوع من الموسيقى، وضربٌ من «النجارة». اكتشفت العلاقة بين العلامة الموسيقية ونوعية الخشب عندما أردت تعلّم العزف على «البزق»، فصنعت آلة موسيقية وطّدت علاقتي بالأخشاب. فخشب «الجوز» مثلاً، إضافة إلى تعريقاته الممتدة والمتداخلة، يصدر نغمة متوازنة وأصواتاً رقيقة عالية، تذكرني بالجمل الطويلة والقصيرة التي تخلق إيقاعاً في النص. وخشب الورد بكثافته وصلابته يجعل الأصابع تستقر بثقة على الأوتار، فتصدر العلامة الموسيقية واضحة لها بداية ونهاية، مثل الجمل اللغوية التي لها بداية ونهاية واضحتان. ويشاركه في هذه الصفات خشب الأبنوس. أما خشب الزان، إذا مُنح الزمن الكافي والمعالجة الصحيحة، يصدر أصواتاً بها الكثير من الحكمة والرصانة تذكرني بالجمل الموسيقية عند محمد عبد الوهاب الذي أدخل الهارموني الغربي إلى الموسيقى العربية. و«السكتة» في الموسيقى تذكرني بالمساحات البيضاء التي يتركها الكاتب في نهاية الفقرة. و«القفلة» الموسيقية تذكرني بأن النص ينبغي أن ينتهي بما بدأ به مع جرعة من الحصافة والبصيرة.
والصحافة أيضاً وطدت علاقتي بالأخشاب، ولا أتذكر عدد المرات التي وقفت فيها تحت أشجار الصفصاف الباكي حبّاً في تحقيق صحافي قرأته قبل نحو سنتين، أسترجع فيها اللحظات التي تسقط فيها الضحية غارقةً في دمائها.
وقبل أن تقرأ التحقيق الذي كتبه مايكل شويرتز ونشرته «نيويورك تايمز» عن التصفيات الجسدية التي تقوم بها المخابرات الروسية، انتبه إلى هذه النصائح:
ضع الكلمات المفتاحية في بداية أو نهاية الجملة أو الفقرة، وليس في منتصفها.
عندما تكون الأحداث معقدة، استخدم الجمل القصيرة لتجعلها سهلة الفهم.
عندما تكون الأحداث معقدة، اترك مساحات بيضاء تسمح للقارئ بالتنفس واستيعاب ما يجري أمامه.
عندما تكون الأحداث معقدة، ابتعد عن الكليشيهات والجمل الإنشائية الرخيصة، فالأحداث قادرة على حمل نفسها ولا تحتاج إلى ألعاب بهلوانية في اللغة.
وإليك ترجمة لجزء من نص التحقيق:
كان الهدف يعيش في الطابق السادس من مبنى كئيب بلون السلمون في شارع فيدينسكا، مقابل أجَمَة من أشجار الصفصاف الباكي. وجده أولِغ سمورودينوف هناك، استأجر شقة صغيرة في الطابق الأرضي، وترقَّبَ.
حصل على الاسم من ضابطين في روسيا يشرفان على العملية. التقيا معه في مقهى «فيي نا» على بُعد بنايات قليلة من المقر الرئيسي لوكالة الاستخبارات الروسية، وناولاه قائمة بأسماء ستة أشخاص في أوكرانيا. اعثر عليهم، قالا لسمورودينوف، وكن على استعداد. كان يتباهى أمام الأصدقاء بأنه جاسوس.
كل شخص حُدّد برمز على اسم زهرة. أحدهم كان «الورد الياقوتي»، وآخر كان «الحَوْذان». أما الهدف، فكان رجلاً يُدعى «إيفان مامشور»، وسُمّي «الوردة». لم يكن أحداً بنظر سمورودينوف، مجرد عامل كهربائي في السجن المحلي. أما الضابطان المشرفان على العملية فقد كانا يُعدّانه شخصاً هامّاً.
قالا له: «يداه غارقتان في الدماء حتى المرفقين».