الفضول والألفة في الصحافة
ما الذي يحدد جودة تصميم المواقع الإخبارية
الآها.. ذاك الشعور الذي ينتابنا ما بين لحظة القلق التي نستشعرها لدى التعرض لشيء جديد ولحظة استيعابه وفهمه.
26.7.20
رشاد عبد القادر
البشر كائنات معقدة؛ فهم فضوليون ومحافظون؛ متعطشون لأشياء جديدة ومنحازون للأشياء المألوفة. والألفة، كما يقول صاحب كتاب Hit Makers ليست النهاية. إنها مجرد بداية فقط.
في صيف دبي الملتهب عام 2004 بدرجات حرارة فاقت 46°، كانت الأجواء محمومة أيضاً في صناعة الصحافة الرقمية في العالم العربي. كان قد مضى على إطلاق الجزيرة نت نحو 3 سنوات كأول موقع إلكتروني رئيسي متفرد للأخبار باللغة العربية، مستفيداً من الاهتمام العالمي الذي حازته شاشة الجزيرة منذ عام 2001 لتغطيتها الحصرية للحرب على القاعدة في أفغانستان. في ذلك الصيف، تقرر إطلاق العربية نت بعد نحو عام من إطلاق قناة العربية ذاتها، كوِجْهة أخرى مختلفة عن هيمنة الجزيرة على اهتمام المشاهدين والقراء العرب، وصدف أن كنت جزءاً من تلك التجربة.
حينه، اجتمع بنا رئيس التحرير د. عمار بكار -كان صاحب رؤية سبق أن خاض تجارب إخبارية رقمية أخرى، وكان لا يزال زملاؤنا الصحفيون في القناة ينظرون إلينا نحن الصحفيين الرقميين نظرة ريبة وشك- وقال إنه لا يريد خبراً؛ أي خبر، بدون صورة موضوعية. لم يكن الطلب عادياً. يكفي أن تلقي نظرة على تصميم الجزيرة نت حينئذ لتجد أن الصفحة الرئيسية للموقع كانت تضم صورة واحدة فقط للخبر الرئيسي. على عكس ذلك، الصفحة الرئيسية للعربية نت كانت تزدان بالصور؛ ليس ذلك فحسب، كان هنالك ألبوم الصور، والأسبوع في صور، وألبومات الكاريكاتير اليومية، والمواد التفاعلية البصرية التي كنت أعدها، وكلها بتقنية Flash Player. لقد كان احتفاءً لا يطاله الشك بمدى الإمكانات التي توفرها الصحافة الرقمية، وافتراقاً كاملاً عن الصحافة الورقية التي كانت تمثلها صحيفتا الحياة والشرق الأوسط، وسيكون للأمر تبعاته في السنوات الـ16 التالية.
حدث الكثير منذ ذلك الوقت، وانتصرت الصور والفيديوهات على النص الذي كان -بشقيه المسموع والمقروء-عماد الصحافة على مدار بضعة آلاف السنين، إذا اعتبرنا الرواة الأوائل صحفيي العصور القديمة.
مع ذلك، كان هنالك عنصر مفقود حال دون اكتمال مشهدية الصحافة الرقمية. عنصر مراوغ يصعب تلمّسه؛ مثل الثقوب السوداء التي يمكن مشاهدة آثارها في الفضاء، ولكن لا يمكن رؤيتها هي ذاتها. عنصر متجذرٌ في النفس البشرية، ورثناه مذ كان أسلافنا يتحلقون حول النار ليستمعوا ويستمتعوا بقصص ذاك الغريب القادم من الطرف الآخر من الجبل، بغض النظر عن شكلها -ورقياً كان أم رقمياً- ويسمى في علم النفس بـ aesthetic aha!؛ تلك الآها التي نطلقها -صمتاً أحياناً- عندما يعتصر الألم بطوننا رهبةً ومتعةً بما نقرأ أو نشاهد أو نسمع.
حاول علم النفس الجمالي تفسير تلك الآها بأنها ذاك الشعور الذي ينتابنا ما بين لحظة القلق التي نستشعرها لدى التعرض لشيء جديد ولحظة استيعابه وفهمه؛ ذاك الفرح الغامر الذي يعتريك في حفلٍ مليء بالوجوه الغربية لحظة مشاهدتك لوجه صديق بينهم، ليس لأنه عزيز عليك -ربما كان كذلك- بل لأنه وجه مألوف بين حشد من الغرباء. في الواقع، إن معظم المستهلكين؛ بمن فيهم مستهلكو الأخبار، هم في الوقت ذاته neophilic - أي يتطلعون للأشياء الجديدة -وneophobic - أي يخشون الأشياء الجديدة – وأفضل المنتجات وأكثرها نجاحاً هي تلك التي تخلق معنىً بتزاوج الجديد مع القديم؛ الغرابة مع الألفة، إنها هندسة المفاجآت المألوفة التي ورثناها على مدار آلاف السنين. ويمكنك تخيل شعور الـ«آها» الذي كان ينتاب جدنا الأكبر عندما كان يميّز حيواناً مفترساً في إحدى غابات السافانا بأفريقيا؛ فحقيقة أنه يميّزه هي ذاتها حقيقة أنه لم يتحول حتى الآن إلى فريسة لذاك الحيوان! هذا ما نفتقده في «صحافتنا»؛ نفتقد إلى «جمال» المفاجآت المألوفة. ويدخل كتاب Hit Makers لديريك ثمبسون في الكثير من تفاصيل هذه الفكرة.
على مدار قرون، حاول الفلاسفة والعلماء وضع نظرية تفسر لماذا الناس يفضلون شيئاً أكثر من آخر؟ أو بمعنى آخر: لماذا يرون عنصراً أجمل من عنصر آخر؟ فعند الإغريق القدماء كان الجمال يمكن قياسه كمياً بين «خبايا الكون المرئي»، بينما اعتنق آخرون تفسيراً صوفياً مبهماً بأن الرقم 1.61803398875 أو ما يسمى بـ«النسبة الذهبية» يمكنها أن تفسر جمال الزهور اليونانية والمعابد الرومانية، بل وحتى أجهزة آبل الحديثة. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، ذهب عالم الرياضيات جورج دافيد بيركهوف إلى حد اقتراح معادلة رياضية لك تابة الشعر: O = aa + 2r + 2m - 2ae - 2ce.
لم يدخل الرأي العلمي هذا المجال إلا في العقود الأخيرة. ففي الستينيات، أجرى عالم النفس الاجتماعي روبرت زايونتس سلسلة من التجارب، وخرج بنظرية exposure effect وكان مفادها أن الناس يظهرون تفضيلاً تجاه شيء معين لمجرد أنهم يعرفونه أو لمجرد أنه مألوف لديهم. وتلت ذلك المئات من الدراسات التي توصلت إلى النتيجة ذاتها. ولعل المثال الأكثر وضوحاً لهذه النظرية هي صورنا الشخصية. هل أنت أيضاً مثلي تأنف صورك؟ حسناً، exposure effect تفسر ذلك بأن الشيء الأكثر ألفة لنا هي وجوهنا التي نراها يوميا في المرآة، وبما أن الوجه البشري غير متناظر قليلاً، فإن الصور الفوتوغرافية تعطينا دائماً نسخة واحدة لم نعتدها، لذلك نأنفها.
قبل عام، نشرت جامعة أكسفورد بالتعاون مع معهد رويترز ووكالة فلامنغو للبحوث الاستراتيجية دراسة تحت عنوان: كيف يستهلك الشباب (18-34) الأخبار؟ وكانت إحدى أبرز النصائح التي تقدمها للمنصات الخبرية ألا تحاول لعب دور «الأب الـ cool»، فالمنصة الخبرية ليست منصة اجتماعية، ومحاولة التحدث مع الشباب بلغتهم مثل محاولة الأب الذي يحاول أن يبدو cool لكنه ليس كذلك. وفي هذه المرحلة عندما تفشل هذه المنصات الخبرية في اختبار يسمى في علم النفس Uncanny valley (الوادي الخارق للطبيعة) فإن النتائج تنقلب عكسية، وبدلاً من جذب القراء الشباب تصبح طاردة لهم.
من حسن حظ المواقع العالمية الكبرى مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال وفايننشال تايمز والغارديان وغيرها، أنها كانت بالأساس مؤسسات ضخمة قائمة، وعملية التحول إلى منصات رقمية تمت في ظل مقاومة وببطيء، لذلك اجتازت اختبار «الوادي الخارق للطبيعة» بنجاح؛ لأنها حافظت في مسار تطورها على تلك «الألفة» التي اعتادها القارئ مع الصحيفة الورقية. وحتى الآن تجد أنها حافظت في تصاميم صفحاتها الرئيسية على روح الصحيفة أو ما يمكن تسميته بروح Digital Migrants.
ما حدث مع المواقع الخبرية العربية الرئيسية، إنها ولدت رقمية Digital Native وأدت دور «الأب الـcool»، فلم يتهيأ لها فرصة اجتياز «الوادي الخارق للطبيعة» بنجاح تام. ونادراً ما تجد في تصاميمها روح الألفة ذاك الذي يمنح القارئ «الثقة» في الصحافة التي يحتاج إليها الآن أكثر من أي وقت مضى.
نعم، البشر كائنات معقدة؛ فهم فضوليون ومحافظون؛ متعطشون لأشياء جديدة ومنحازون للأشياء المألوفة. والألفة، كما يقول صاحب كتاب Hit Makers ليست النهاية. إنها مجرد بداية فقط.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020