الصقور الحوّامة..
«الهرم المقلوب» ليس الشكل الوحيد في إيصال الخبر، كان هناك دائماً استثناءات.
أشكال الكتابة ليست ثابتة، بل هي استجابة لتطلعات الجمهور، ومتطلبات السوق، والمناخ السياسي، وما تتيحه التقنيات الجديدة من فرص.
6.5.21
رشاد عبد القادر
اكتب كي تفاجئ نفسك حتى وإن كانت المفاجأة سيئة. «لديك الحرية. لديك الخيار. استخدمه. شجّع الآخرين على النزول عن غصن الشجرة. استثمر بعض الوقت والاهتمام للنظر فيما أنت ذاهب إليه. ولكن بعد ذلك انزلق. تحسّس تيار الهواء الصاعد. وحلّق».
كان الفضول والقلق ينتابان الروائي الأمريكي لاري ماكميرتري Larry McMurtry الحائز على «جائزة بوليتزر» في الآداب، عندما حطّت طائرته في تكساس عام 1963، ففي ساعات قليلة سيشهد عملية غير اعتيادية -بمعايير زمانه- في تحويل شخصيات روايته «Horseman, Pass By» إلى كائنات من لحم ودم تقف أمام عدسات تصوير فيلم «هادّ» Hud الذي سيحصد 3 جوائز أوسكار وسيُحفظ في «السجل الوطني للأفلام» في مكتبة الكونغرس باعتباره إحدى أيقونات سينما الغرب الأمريكي.
كانت عمليات التصوير قد بدأت فعلياً قبل أسبوع أو أسبوعين عندما وصل إلى الموقع، وكان أول ما تفتّق في ذهنه كحبة الذُرَة أن سأل العاملين هناك: كيف جرى مشهد الصقور الحوّامة؟
في ذلك المشهد، يصل «هادّ» الذي يلعب دوره الممثل بول نيومان، بشاحنته الصغيرة ليكتشف أن بقرة قد نفقَتْ بسبب مرضٍ انتشر في قطيع أبقاره، فيُخرج بندقيته غضباً ويطلق النار على صقور حوّامة تراصفت على غصن شجرة تنتظر بفارغ الصبر الوليمة الماثلة أمامها. وكان من المفترض -بحسب أحداث الرواية- أن تطير الصقور فزعةً في السماء الزرقاء، لكنها في أثناء تصوير المشهد رفضت أن تتحرك من مكانها. ويذكر لاري ماكميرتري كيف تبادل العاملون نظرات الحَرَج من سؤاله؛ ليكتشف أن الأمر لم يسر كما يجب. ولَكَ تخيُّل ذلك: أن تطلق النار على طيورٍ فتبقى في مكانها وكأن شيئاً لم يكن!
بدأت المشكلة عندما اكتشف فريق العمل أن الصقور المحلية في «تكساس» مظهرها رثّ، فاضطروا إلى شحن صقور خاصة جوّاً وبتكلفة كبيرة، لها مظهر درامي يتناسب مع وسامة الممثل بول نيومان. ثم بدأت المشكلة الثانية؛ كان من المستحيل التمرين على المشهد دون أن تفرّ الصقور الجديدة المهيبة، فما الحل؟ اقترح أحدهم أن يتم ربط أرجلها بسلك إلى غصن الشجرة. وهذا ما فعلوه. أطلق نيومان النار من بندقيته في أثناء التمرين، فلم تستطع الصقور الطيران، بدلاً من ذلك، في أثناء هوجة الفزع، اندفعت إلى الأمام وانقلبت رأساً على عقب متدليّة من أرجلها المربوطة بغصن الشجرة. نجحت الخطة، لكن القصة لم تنتهِ هنا. تبيّن أن الدورة الدموية لهذه الصقور الحوّامة لا تعمل عندما تكون رأساً على عقب، والنتيجة أنها تصاب بالإغماء، فيعمد الفريق إلى تصحيح وضعيتها مجدداً كي تعود إلى وعيها. وهكذا إطلاق نار، محاولة طيران، انقلاب، إغماء، إفاقة - مرة، مرتين، ثلاث، أربع.. أصبح الجميع جاهزاً. فُكّت أرجل الصقور وأُديرت الكاميرات استعداداً للحظة الكبرى، ومع صرخة: أكشن، طاخ طااخ، لم تتحرك الطيور من مكانها، ثم طاخ طااخ طاخ، طخ طاخ، رفضت أن تتحرك أيضاً. استعان الفريق بمدرّب رفيع المستوى لمساعدة الصقور على استعادة احترامها لذاتها، لكنه لم ينجح إلا مع صقرين اثنين من أصل 12. حسب صانعي الفيلم حساب كل شيء إلا «عقلية الصقر»، فقد كان لسان حال الصقور يقول: «جربنا الطيران ولم ينجح. لن نجربه مرة أخرى». كان المشهد برمته فوضى عارمة.
القصة ذكرها ماكميرتري عام 1968 في كتابه In a Narrow Grave، عن تأملاته وذكرياته في «تكساس». نكشت المؤرّخة والكاتبة والمحاضرة باتريشيا نيلسن ليمريك Patricia Nelson Limerick القصة مجدداً في مقال مطول نشرته في «نيويورك تايمز» عام 1993 تنتقد فيه «عقلية الصقر» في المؤسسات الجامعية، ثم أصبحت منذ ذلك الحين مضرباً للمثل لدى الحديث عن كتابة التقارير Reporting الصحافية؛ أو ما يُعرف بالاسم المفزع «الهرم المقلوب».
فتاريخياً، تقوم المؤسسات الإعلامية بربط أرجل صحافييها بقالب «الهرم المقلوب»؛ ومفاده أن المعلومات يجب تقديمها بطريقة معينة: الأكثر أهمية في قاعدة الهرم في الأعلى والأقل أهمية في رأسه المدبب المتجه إلى الأسفل. لا عيب في ذلك بحد ذاته. ينبغي أن يكون للصحافيين أرضية مشتركة، وعليهم أن يتشاركوا في بعض الافتراضات الأساسية، وأن يكون لديهم عادات ذهنية متشابهة. فهذا يمنح الصحفي موطئ قدم في المؤسسة التي يعمل فيها.
المشكلة تبدأ عندما تهيمن نفسية «الصقر الحوّام» على الصحافي فيرفض الطيران واستعادة احترام الذات حتى بعد فكّ قدميه. يرْبُض هناك على غصن الشجرة، بظهره المنحني، غاضباً ومتربّصاً بأي صحافي آخر يحاول التحليق قليلاً، فيتبرع بإيصال «شكوى» شديدة اللهجة بأن أي محاولة لاختراق حصن «الهرم المقلوب» المنيع ينبغي أن تُفْشَل في مهدها. عنده الكتابة الباهتة «مهارةُ بقاءٍ» على قيد الحياة داخل المؤسسة. وهكذا أصبحت الحكمة هي الجلوس بهدوء على الغصن؛ الجلوس دون أيّ تفكير في الطيران، فحتى مجرد التفكير قد يكون كافياً لإمالة الميزان وإطلاق جولة أخرى من الرفرفة والإغماء والارتباك.
طوال قرون، لم يكن «الهرم المقلوب» الشكل الوحيد في إيصال الخبر، كان هناك دائماً استثناءات. لكن التوتر ظلّ مستمراً بين الذين يريدون تقديم الخبر ناشفاً ومجرداً Hard News، وبين أولئك الراغبين في رواية القصص Storytelling، المتحمسين لتبنّي هياكل سردية للحفاظ على القرّاء الذين تقِلُّ أعدادهم باطراد. والحق، أن أشكال الكتابة ليست ثابتة، بل هي استجابة لتطلعات الجمهور، ومتطلبات السوق، والمناخ السياسي، وما تتيحه التقنيات الجديدة من فرص.
يحتاج الصحافي إلى إنقاذ نفسه من نفسه. يحتاج إلى التخلص من ذاك الخوف والفزع في أسلوب كتابته؛ تلك العبارات المهزوزة، غير الواثقة من «يبدو أن» إلى «يميل إلى» مروراً بـ«نوعاً ما» و«ربما» و«عبارة عن».. إلخ. هنالك الآن أكثر من 50 مليون صانع محتوى حول العالم خارج المؤسسات الإعلامية المعهودة، أقدامهم غير مكبلة بالغصن، يطيرون مع تيارات الهواء الدافئة، ويحقق بعضهم بضعة ملايين من الدولارات شهرياً (انظر إلى Mr. Beast، جيمي دونالدسون عمره 22 عاماً ويحقق 3.1 مليون دولار شهرياً من الاشتراكات فقط في قناته).
ليس هذا فحسب. ففي عصرنا، عصر الوباء والمعلومات المضللة والعصيان المدني، يتجادل الصحافيون عالمياً في المفاهيم الكبرى الراسخة في الصحافة ويشككون في مدى جدواها، كـ«الموضوعية» و«الحياد» و«التوازن»، فيما تجد أن مفهوماً بسيطاً وواضحاً مثل قاعدة «الهرم المقلوب» لا يزال ركيكاً ومتوجساً في صحافتنا.
انظر إلى التكرار والخوف من الاستنتاج وتغييب الصورة الكبيرة في هذا الخبر الذي نشره أحد أهم المواقع الصحافية العربية، وسأقارنه بالخبر ذاته نشر في «نيويورك تايمز» في الوقت ذاته، وكلاهما يعت مد «الهرم المقلوب».
خبر الصحيفة العربية:
أخفق رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلف بنيامين نتنياهو (71 عاما) في تشكيل حكومة، بانتهاء المهلة الممنوحة له لإنجاز هذه المهمة. ولم يتمكن نتنياهو -رئيس حزب الليكود اليميني- من الحصول على أغلبية 61 نائبا من أصل 120 في الكنيست (البرلمان) اللازمة لتشكيل الحكومة.
وانتهت عند منتصف الليل يوم الثلاثاء مهلة 28 يوما يمنحها القانون للمكلف بتشكيل الحكومة، والتي يمكن تمديدها أسبوعين بموافقة الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين.
وذكرت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن نتنياهو أعاد التكليف بتش كيل الحكومة إلى ريفلين، بينما قال بيان للمتحدث باسم الرئيس الإسرائيلي إن الأخير سيتواصل صباح الغد مع الكتل السياسية بخصوص استمرار مساعي تشكيل الحكومة.
وأضاف بيان المتحدث باسم الرئيس "انتهت فترة الـ28 يوما المنصوص عليها في قانون أساس الحكومة، والتي كانت تحت تصرف رئيس الوزراء عضو الكنيست بنيامين نتنياهو لتشكيل الحكومة، في منتصف الليل"، وتابع البيان "قبل منتصف الليل بقليل، أبلغ نتنياهو الرئيس أنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة".
خبر «نيويورك تايمز»:
انتبه إلى الفقرة الأولى كيف يرسم الصحافي الصورة الكبيرة للحدث، وفي الفقرة الثانية كيف يتوقع بجرأة منح المعس كر المناهض لنتنياهو فرصة تشكيل الحكومة، وهو ما حدث في اليوم التالي، بينما يتوقع خبر الصحيفة العربية التمديد.
فشل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تشكيل حكومة جديدة مع انتهاء الموعد المحدد في منتصف ليل الثلاثاء، ما يعرّض مستقبله السياسي للخطر، إذْ يواجه محاكمة بتهم الفساد وإطالة الجمود السياسي الذي تفاقم بعد أربعة انتخابات في غضون عامين.
الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين قد يمنح الآن المعسكر المناهض لنتنياهو فرصة تشكيل حكومة، ما قد يعني طرد نتنياهو من السلطة بعد 12 عاماً متتالية في منصبه.
ويعد حزب الليكود اليميني الذي يتزعمه نتنياهو الأكبر في المشهد السياسي الإسرائيلي الممزق، بعد أن فاز بـ 30 مقعداً في الانتخابات العامة في مارس. مع ذلك، لم يتمكن من حشد عدد كافٍ من الشركاء لقيادة تحالف أغلبية لا يقل عن 61 مقعداً في الكنيست (البرلمان) المؤلف من 120 عضواً.
وبحكم ما أنشره، تصلني أسئلة من صحافيين يحاولون اكتشاف طريقهم. فيا أيها الصحافي الشاب لا تكن مثلنا، لا تكن أسير القوالب. تعلّم على «ألّا تتعلم»؛ أن تكون لديك القدرة على نسيان ما تعلمت، لا تستسلم لما تكتبه وللأسلوب الذي تكتب به. فالكتابة الجيدة هي التعلم باستمرار، هي عدم الخوف من الفشل. اكتب كي تفاجئ نفسك حتى وإن كانت المفاجأة سيئة. وكما تقول ليمريك: «لديك الحرية. لديك الخيار. استخدمه. شجّع الآخرين على النزول عن غصن الشجرة. استثمر بعض الوقت والاهتمام للنظر فيما أنت ذاهب إليه. ولكن بعد ذلك انزلق. تحسّس تيار الهواء الصاعد. وحلّق».
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020