الأفعال.. تلك القوة المهدورة صحافياً
كيف تستخدم الأفعال في الكتابة الصحافية
وضع الفاعل والفعل الرئيسيين في منطقة قريبة من نهاية الجملة يضفي التأنق عليها.
30.4.21
رشاد عبد القادر
الصحافة أساساً تدور حول الأفعال. وقوة الأفعال في أنها مرتبطة بزمن له بداية ونهاية، وبها حركة من النقطة «أ» إلى النقطة «ب»؛ ما يضفي الأكشن (أو التشويق إذا أردت) إلى السرد في النص. استبدال الأفعال بصيغة المصدر ينزع عن السرد دسمه.
الأفعال في اللغة العربية توقفني، تدخلني في حالة تأمل، فهي على كثرتها يقل استخدامها ولا سيما في الصحافة -باستبدالها بصيغة المصدر- ما يولّد لديّ نوعاً من الغيَرْة عليها وعلى الزخم الذي يمكنها بثّه في النص.
فالصحافة أساساً تدور حول الأفعال. وقوة الأفعال في أنها مرتبطة بزمن له بداية ونهاية، وبها حركة من النقطة «أ» إلى النقطة «ب»؛ ما يضفي الأكشن (أو التشويق إذا أردت) إلى السرد في النص. استبدال الأفعال بالمصدر ينزع عن السرد دسمه. فالمصدر صيغة اسمية تدل على الحدث؛ أي الحدث، وقد نزع عنه زمنه. فالأسماء والصفات في اللغة «مثل زيد، وأزرق» تشير إلى الثبات والديمومة. وأيضاً المصدر مثل «قتال»، فهو صيغة اسمية تدل على «حدثٍ» ليس له زمن أو بداية ونهاية.
وحتى عند استخدام الأفعال، كثيراً ما يلجأ الصحافي إلى أفعال القول (قال، أضاف، أعلن، نقل، أكد.. إلخ) التي لا تدل على أكشن.
لنحاول إضفاء الأكشن على خبر نُشر أمس، وأخذته على نحو عشوائي. انتبه إلى استخدام صيغة المصدر ونزع الأكشن من الخبر الأصلي: مقتل، إصابة، متواصلة..
الأصل:
أعلنت وزارة الصحة في قرغيزيا مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة عشرات آخرين في الاشتباكات المسلحة المتواصلة بين القوات القرغيزية ونظيرتها الطاجيكية في منطقة باتكين الحدودية شمال البلاد.
التعديل:
قُتل ثلاثة أشخاص وأصيب العشرات في اشتباكات مسلحة تجري بين القوات القرغيزية ونظيرتها الطاجيكية في منطقة باتكين الحدودية شمال البلاد.
انظر إلى الإيقاع الذي تخلقه الأفعال في هذا النص عن رواية «شارع السردين المعلب» لجون شتاينبيك:
..لم يكن في حاجة إلى ساعة. لقد ألِفَ المدّ والجَزْر إلى درجة صار معها يحسّ بارتفاع الماء أو انحساره وهو نائم. واستيقظ مع الضحى، وتطلّع من خلال زجاج السيارة فإذا به يجد الماء آخذاً في الانحسار عن الصعيد الحافل بالحجارة. فاحتسى شيئاً من القهوة الساخنة، والتهم ثلاثة ساندويتشات، وأتبعها بزجاجة من البيرة. ويتواصل انحسار الماء على نحوٍ لا يُدرَك، ويتكشّف الصعيد عن حجارته التي تبدو وكأنها ترتفع فيما ينخفض المحيط مخلّفاً بركاً صغيرة وأعشاباً نديّة وطحالب وإسفنجاً، قُزَحيّة الألوان وسمراء وزرقاء وحمراء. وفي الأعماق تستقرُّ نفايات البحر العجيبة: أصداف محطمة ومتشققة، وبقايا هياكل عظمية، ومخالب. ذلك بأن قاع البحر كلَّه مقبرة غريبة يدبّ فوقها الأحياء ويَعدون.
فبوضع الفاعل المستتر أحياناً والأفعال في بداية الجُمل، يتدفق الوضوح والطاقة السردية في المقطعين، كما يقول Peter Roy Clark في كتابه Writing Tools. بعض الجمل تضع الفكرة الأساسية (وهي عادة الفاعل والفعل الرئيسيين) في بداية الجملة، والبعض الآخر بالقرب من النهاية. الفرق مهم. الجمل التي توضح نقطة ما في وقت مبكر تبدو أكثر طبيعية وفطرية في المحادثة الشفوية. انتبه لحديثك عندما تتكلم كيف تضع الفاعل والفعل في بداية الجملة. عند قراءة هذا النوع من الجمل، من المرجح أن يركز القارئ على المحتوى، وبدرجة أقل على الكاتب.
لكن قصة الأفعال لا تنتهي هنا. إذ كثيراً ما أقف عند تلك القوة التي تبثها الجملة عندما يرد الفعل الرئيسي في نهاياتها. فعندما يريد الكاتب أن يخلق الإثارة، ويزيد التوتر، ويجعل القارئ ينتظر ويترقب، أو أن ينضم إلى رحلة استكشاف، أو أن يتشبث بأذيال الحياة الغالية، يمكنه أن يؤخّر فاعل وفعل العبارة الرئيسية في الجملة إلى النهاية.
أليست «الحياة» ذاتها جملة طويلة تنتهي بالموت. وعند ذلك بالتحديد وقبل وضع النقطة في نهاية الجملة بأن يوارى الجثمان الثرى، تخرج أجمل العبارات بأن «اذكروا محاسن موتاكم».
إن التلاعب بالجملة بوضع الفاعل والفعل الرئيسيين في منطقة قريبة من نهايتها، يضفي التأنق على الكتابة؛ نوعٌ من ادّخار «نَفْخَة البوق» في وجه القارئ إلى نهاية الجملة. انظر إلى سورة التكوير التي تستخدم الجملة الشرطية بوضع الفعل في نهاية الجملة:
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ... وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ... وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾
وهي سورة مكية نزلت رداً على «أبي جهل» عندما كان الرسول (ص) لا يزال يجاهد لإثبات دعوته، وتركيز على عظمة الخالق (وهو الكاتب أيضاً إذا نظرنا للقرآن كنص أدبي).
انظر إلى هذه الجملة من النعي الذي نشرته «نيويورك تايمز» أمس، وتتحدث عن هِبَة تمتعت بها فاليري سيريلو بانش التي توفيت بـCovid-19، في رعاية الأطفال المتشاكسين:
كان بإمكانها أن تجمع 20 طفلاً صغيراً معاً، تصحبهم إلى حديقة الحيوان، تأخذهم إلى السباحة، تطعمهم على الغداء، ثم تؤويهم إلى الفراش للقيلولة دون أن تنزّ قطرة عَرَق واحدة.
هذا النوع من الجمل يضع «اللحم» -وهو هنا «دون أن تنزّ قطرة عَرَق واحدة»- قُرب نقطة النهاية؛ صحيح أنه لقمة يصعب هضمها، لكنها تستحق أن تلوكها بين أسنانك. فهي تثير تلك الغريزة البدائية عند البشر؛ تلك الذكرى الضاربة في القدم عندما كنا جميعاً نضع الفعل في نهاية الجملة في اللغة الأولى للبشرية.
وثمة نقاش جميل حول ترتيب كلمات الجملة «الفعل – الفاعل – المفعول به» واختلاف ذلك باختلاف اللغات ودلالات ذلك. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الترتيب الأصلي للغة البشر كان «الفاعل – المفعول به - الفعل». ويبدو ذلك منطقياً إذا نظرنا إلى أن اللغة أصلاً كانت أداة تواصل لدرء الأخطار، فأيّهما أسرع في إيصال الفكرة: «أسدٌ يمشي في الغابة» و«أسدٌ في الغابة يمشي»؟ بالطبع الجملة الأخيرة، فبمجرد سماع الإنسان البدائي بكلمة الأسد (وهو هنا الفاعل) يدرك المخاطر المحدقة، ولا يهم إن كان يمشي أم لا، لذلك جاءت المعلومة المهمة في بداية الجملة.
لكن، إذا كان وضع الفاعل في بداية الجملة والفعل في نهايتها كان الأصل في لغة البشر، لأن الفاعل كان المعلومة الأهم بالنسبة لهم، فلماذا تغيرّ هذا الترتيب في عدد كبير من اللغات فيما بعد؟ على الأرجح لأن سرد القصص -بما يتطلبه من وضوح وسلاسة- عند نقطة ما بدأ يلعب دوراً أساسياً في التاريخ. فحاجات الإنسان البدائي ومتطلباته بدأت تأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، ولم يعد نقل المعلومة (كحال التقارير الخبرية) وحده كافياً لتحديد المخاطر التي تهدد البقاء، فالتعاون والاستفادة من تجارب الآخرين لخلق «المعنى» وتحقيق الأهداف وحل المشاكل المستجدة، تطَّلب «سرد القصص». وثمة كتاب شيق عن السرد القصصي بعنوان «On the Origin of Stories» لـ Brian Boyd يدخل مساحة ممتعة حول الأصول الجينية لسرد القصص عند الإنسان.
12. Mai 2021
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22. April 2021
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20. April 2021
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
25. Oktober 2020