حياة في اثنتي عشرة دقيقة
خرج أحمود أربيري للركض، فتعرض لإطلاق نار في الشارع. كيف يُمنع السود من ممارسة الرياضة في أمريكا.
ميتشل جاكسون
١٨ يونيو ٢٠٢٠
فازت هذه القصة بجائزة بوليتزر لعام 2021 وجائزة «ناشيونال ماجازين» لكتابة الفيتشر. نشرت القصة في العدد 5 لعام 2020 من مجلة «Runner’s World».
ⓘ نافذة على القصة: فازت قصة «حياة في اثنتي عشرة دقيقة» بفارق ساعات، بالجائزتين المرموقتين «بوليتزر» و«جائزة ناشيونال ماجازين» عن فئة «الفيتشر» لعام 2020. القصة نُشرت في يونيو/حزيران 2020، في مجلة «Runner’s World» التي تنشر عن الأحذية الرياضة أكثر مما تنشر قصصاً إنسانية. ولعلّ هاتين الجائزتين هما أولى جوائز المجلة التي تصدر منذ عام 1966. قبل النشر بشهر تقريباً، كان ميتشل جاكسون قلقاً. في مايو/أيار 2020 كان قد أرسل توّاً الفصل الأول من روايته الأخيرة إلى وكيله. بانتظار استجابته، أراد أن يُشغل نفسه بالكتابة الصحافية. فجاكسون أيضاً كاتب مساهم في مجلة Esquire الرجالية التي تصدرها شركة «هيرست» إلى جانب Runner’s World ومطبوعات أخرى. عندما اتصل به مدير تحرير مشاريع شركة «هيرست» ليكتب لمجلة Runner’s World قصة عن مقتل أحمود ماركيز أربيري في فبراير/شباط 2020، كان جاكسون متردداً. فعلى الرغم من ممارسته لرياضة الجري، لم يكن يوماً عدّاءً حقيقياً، كيف يكتب إذاً لمجلة متخصصة بالعدّائين. بعد أخذ ورد، اقتنع أخيراً. لم يخرج جاكسون من منزله في «هارلم» بنيويورك؛ كانت جائحة كورونا قد بدأت تتجه إلى الذروة. لم يكن يعرف «مود» أو عائلته، ولم يذهب ويقابل أحداً وجهاً لوجه. لم يرَ منزل «مود»، ولم يجرِ جولة في الشارع الذي قُتِلَ فيه. لكن بعد ثلاثة أسابيع، وساعات طويلة من العمل؛ من 10 إلى 14 ساعة يومياً، ومقابلات لا نهائية عن بُعد، أنتج «حياة في اثنتي عشرة دقيقة» في 5900 كلمة باللغة الإنجليزية. جمع جاكسون المعلومات من مصادر متنوعة. أجرى مقابلات عن بُعد مع عائلة أربيري وأصدقائه وصديقته ومدرب كرة القدم، ما ساعده على إعادة بناء شخصية «مود» بأبعادها المتعددة. كان قد مضى 4 أشهر على مقتل «مود»، وبمساعدة مراسل متمرس في جورجيا، تمكن من دراسة تقارير الشرطة والطبيب الشرعي. درس الأخبار التي نُشرت عنه طوال تلك الفترة. قضى ساعات في مشاهدة تحقيق مصوّر لجريمة القتل أعدّته صحيفة نيويورك تايمز، ومقاطع فيديو أخرى على الشبكات الاجتماعية، حتى استطاع صياغة صورة دقيقة ومرعبة للجريمة. تتناوب القصة في ثلاثة مسارات: الحياة التي عاشها أربيري، وتسلسل أحداث الجريمة، ومنظور الراوي: حياة جاكسون الشخصية بصفته رجلاً أسود. فهو مثل أربيري، قُبض عليه في قضية حيازة سلاح مع المخدرات في بداية العشرينيات من أعمارهما. وبينما كان الحكم على أربيري بوضعه تحت المراقبة، أمضى جاكسون 16 شهراً في سجن بولاية أوريغون.
تخيّلْ الشاب أحمود «مود» أربيري، الذي بدأ مسيرته لاعبَ «ركض خلفيّ احتياطيّاً» وأصبح لاعب «ظهير الخط»، في ملعب لتدريب فريق «برونزويك هاي بايرتز» [قراصنة مدرسة برونزويك الثانوية] لكرة القدم الأمريكية. قسّم المدرب الفريق إلى مهاجمين ومدافعين، وجعل المهاجمين يتدربون على خطتهم للمباراة التالية مع الفريق الخصم. المدرب، كعادته، كان يسخر من المدافعين. يقول لهم: «لستم جاهزين». «لا يمكنكم إيقافنا». «ماذا ستفعلون؟» في أثناء المباراة، يندفع «مود» بطوله البالغ 178 سنتيمتراً ووزنه الذي يصل إلى 75 كغ، نحو اللاعبين الذين يشكلون حائط الصد، وبووووم! فيَصدُر صوت أشبه ما يكون باصطدام السيارات، يتردد صداه في الملعب ثم في المدرجات، ويصل حتى غرفة خلع الملابس. إنها مأثرة يريدها المراهق «مود» أن تكون رسالة إلى مدربيه، وزملائه في الفريق، للقاصي والداني، ومفادها: لا تختبروا قوة قلبي. رفع بعض هؤلاء الزملاء قبضاتهم إلى أفواههم وهم يصيحون: أوووه. آخرون رَبتوا اللبادات على أكتاف زملائهم وهم يشيرون إلى «مود». أحد مساعدي المدرب جفل، وركض لمساعدة لاعب آخر سقط أرضاً. والمدرب نفخ في صفّارته. وصرخ: «لماذا ضربته هكذا؟» «وفّر ذلك ليوم الجمعة. دعنا نرك تفعل ذلك الجمعة.»
في تلك الجمعة، في ملعب مقاطعة «جلين» (أحد أكبر ملاعب المدارس الثانوية في ولاية جورجيا المحبة لكرة القدم الأمريكية)، كان «القراصنة» يتجمعون بقمصانهم البيضاء المزركشة باللون الأزرق والذهبي، في غرفة خلع الملابس. «مود» الذي يرتدي لُبّادات كتف مرتفعة وقناع واق للوجه بقياس 4X2 والرقم 21 تكريما لأخيه «باكّ» وللّاعب الشهير شون تايلور، تباهى وسط زملائه، ويردد ترتيلة ما قبل بدء المباراة.
«هل أنتم جاهزون!» يصيح.
«إي نعم جاهزون!» يصيحون.
«هل أنتم جاهزون!» يصيح.
«إي نعم جاهزون!» يصيحون.
«لستم جاهزين؟!» يصيح.
«شيييييييت!» يصيحون.
ⓘ كيف أعاد بناء المشهد الافتتاحي كان قد مضى على المباراة في المشهد الافتتاحي ما لا يقل عن 7 سنوات، فكيف استطاع جاكسون أن يعيد بناءه بهذه الطريقة القوية والحيوية؟ هذا النوع من الكتابة يُعد مزجاً بين الخيال والواقع؛ فالكاتب يستخدم أداة الخيال لسرد قصة حقيقية. في الكتابة الإبداعية، يدخل الكاتب في عقل الشخص الذي يكتب عنه ويستلهم أحاسيسه. جاكسون عرف من أصدقاء «مود» قوة إرادته وعزيمته، وعرف الوقائع الأساسية للمباراة من «أكيم» صديق «مود»، ومن مدربه «جيسون». وجاكسون نفسه كان لاعباً هاوياً، وقد سبق أن مرّ بهذه التجارب. ثم تحقق من وقائع المباراة من الناس والمدربين الذين شاهدوها بأنفسهم، لذلك بقدر الخيال في المشهد الافتتاحي، بقدر دقة وقائعه الأساسية.
«مود» في عام 2012، ارتدى رقم 21 تكريما لأخيه «باكّ»، ومثله الأعلى اللاعب شون تايلور.
وسط تصفيق حاد أشبه بالرعد، اندفع الفريق من فتحة النفق الذي يؤدي إلى أرضية الملعب، وقد تصاعد منه الضباب في ثورة غضب. فرقة المدرسة تعزف أغنية القتال، والمشجعات يلوحن بالـ «بوم بومس» في صف أمام الفرقة الموسيقية. بحر صاخب من الأزرق والذهبي في المدرجات، بينهم كثير من معارف «مود». في أثناء اللعب، بدأ الفريق الخصم بالتمرير في المباراة، فلجأ «مود» إلى قوته المدمرة، وتحت وهج أضواء مصابيح الهاليد المعدني الكاشف بما تشكله من تحدٍّ، اندفع «مود» بسرعة فائقة نحو لاعب الركض الخلفي وبووووم! في ارتطام أشبه باصطدام الشاحنات. ترددت الضجة عبر الملعب ثم المدرجات، بل ربما في كامل مدينة «برونزويك». صدر هدير من المشجعين، لكن «مود» هرول إلى الخطوط الجانبية بعدم اكتراث تقريباً. «جيسون فون»؛ مساعد المدرب وكان قد أشرف أيضاً على تدريب «مود» في فريق الناشئين، مسكه من القناع الواقي لوجهه. «هكذا تكون الضربة،» قال له، وهو يكتم دهشةَ كيفَ أنَّ صبيّاً بحجمه يستطيع أن يضرب بتلك القوة.
لكن هذا هو الشاب «مود»، صغير في الحجم، كبير في القلب.
ⓘ شاعرية النص لست من محبي الجمل الشاعرية. في النصيحة السابعة في «أدوات كتابة القصة» ذكرتُ أن «اذبح الجمل العزيزة على قلبك». في المشهد السابق من «حياة في اثنتي عشرة دقيقة»، تمر جملة لم أستطع تجاهلها. ليس لأنها شاعرية؛ فهي كذلك، بل لأن «شاعريتها» تصل لحد الإدهاش؛ تلك المتعة في إحداث «الفهم» في أذهان الآخرين. الجمل الحسنة تتنازعها قوتان: حُسْن التركيب والقدرة على الإدهاش. إذا طغى حُسْن التركيب على القدرة على الإدهاش، تحوّلت الجملة إلى تكلّفٍ، وباتت «عزيزة على القلب»؛ وجبَ ذبحها. وإذا طغى الإدهاش على الحُسْن، احتفظت الجملة بديناميكيتها، بكونها جملة «صحفية»، بها أكشن. أي تظل الجملة حسنة التركيب، لكنها ديناميكية؛ تدفعك لتفكر، لتفهم، تجعلك ترى بعين عقلك، وتستشعر بحواسك. الجملة الحسنة؛ الكاملة الحسن، تسافر عبر الزمان والمكان. تجعلك، بأبهى صورها، تحلف بأغلظ الأيمان إنك كنت على وشك قولها لو لم يسبقك إليها. فقد كانت على طرف لسانك. أو تجعلك، بالبهاء الأخفّ، تشعر بالغيرة لأنك لست بقائلها. وجمل جاكسون الحسنة، هي من هذا النوع. تثير الدهشة من دون تكلّف. ففي المشهد أعلاه، تمرّ جملة صرفتُ الكثير من الوقت على ترجمتها، ولكن أعترف بأنني أخفقت في نقل كم الدهشة الهائل فيها بلغتها الأصل؛ الإنجليزية، وهي: “Beneath a metal-halide glare that’s also a gauntlet.” وترجمتي: «تحت وهج أضواء مصابيح الهاليد المعدني الكاشف بما تشكله من تحدٍّ،» المشكلة في كلمة gauntlet التي تعني بمعناها المعاصر التحديات أو الصعاب، ولكن بمعناها القديم تعني القفاز المعدني. (لاحظ هنا أن الضوء والقفاز يتشاركان في كونهما معدنيين). تاريخياً، gauntlet تشير إلى قفّاز واقٍ معدني كان يرتديه الفارس ليحمي بها كفّه بوصفه جزءاً من الدرع الذي يغطي به جسده. في العصور الوسطى، عندما يتحدى فارس ما آخرَ، كان يرمي بقفازه المعدني في دلالة على التحدي. إذا التقطه الفارس الآخر فهذا يعني أنه قبل التحدي. ثم يتبارزان إلى أن يقتل أحدهما الآخر. مع مرور الوقت، اُستخدم تعبير "gauntlet" بمعنى أكثر عمومية، ليشير إلى التحديات التي ينبغي للمرء التغلب عليها. ويُستخدم تعبير run the gauntlet لوصف سلسلة المصاعب التي يجب أن يمر بها المرء لبلوغ هدف معين. لكن الكلمة لا تزال تحمل بقايا آثار عهود الفروسية. في سياق الجملة "beneath a metal-halide glare that's also a gauntlet"، يستخدم جاكسون التعبير بمعنى مجازي لوصف ما تسبِّبه الأضواء الكاشفة من ضيق في الرؤية لدى اللاعبين في الملعب. ما يستحضر، ولو من بعيد، صورةَ الفروسية: على ظهر حصانه، وتحت ثقل درعه المعدني، يغير «مود» على الأعداء، وعليه أن يتحمل مشاق الإغارة. جاكسون لم ينسج الجملة من بنات خياله. بحث عن الملعب، وتعرّف على نوع الإضاءة فيه، وعرف أن الأضواء ستكون ساطعة لإن المباراة جرت ليلاً. هو نفسه كان لاعب كرة سلة متميزاً في مرحلة الثانوية. اختبر الأضواء الكاشفة وما تشكله من تحدِّ للاعبين في كرة القدم الأمريكية أو كرة السلة، واختبر أيضاً مدى كثافة الجمهور في المدرجات في مباريات كهذه.
الأحد 23 فبراير 13:04 | 2020 لقطات فيديو مراقبة من منزل مجاور تظهر بالدقيقة «مود» الذي خرج للجري في منطقة «ساتيلا شورز» بـ«برونزويك»، يتجول في رقعة مشمسة من الطريق الضيقة، ويتوقف عند المرج المبقّع لبيت من طابق واحد بلون الرمال لا يزال تحت الإنشاء في العنوان: 220 «ساتيلا درايف». ثمة تواليت أحمر متنقل في الفناء الأمامي. المرأب مفتوح على مصراعيه.
ⓘ الخط الدرامي في هذا المشهد، ينحرف الخط الدرامي للقصة عن الخلفيات التي أتى منها «مود»، إلى التسلسل الزمني للأحداث التي أفضت إلى مقتله. سيتابع جاكسون القصة حتى نهايتها بهذا البناء الدرامي: قصة داخل قصة. قصة مقتل «مود» داخل قصة «مود» الإنسان: مولده، نشأته، دراسته، علاقته مع أسرته وأصدقائه، شغفه بكرة القدم الأمريكية، حبه الأول، خططه لتكوين أسرة، أحلامه وإحباطاته. خلال سرد القصتين، سيتدخل جاكسون أيضاً بصوت الراوي، وسيسرد جزءاً من قصته الشخصية -فهو أيضاً، مثل «مود»، كان قد اعتقل بتهمة حيازة سلاح إضافة إلى مخدرات- وسيتحدث عن رؤيته، تأملاته، وتفسيره لما جرى لـ«مود». عندما باشر جاكسون في كتابة القصة بعد مقتل «مود» بثلاثة أشهر، كانت لا تزال القضية طازجة. الشرطة لم توقف الرجال البيض الثلاثة المتورطين في الجريمة إلا بعد أشهر من الحادث. وستنتظر المحكمة سنتين ونصف قبل أن تنطق بالحكم النهائي. لفهم ما جرى، كان ضرورياً بناء السياقات؛ الصورة الأكبر. وما كان ذلك ممكناً بدون التضحية بالخط الدرامي، فلجأ جاكسون إلى هذا البناء: قصة داخل قصة، ليحافظ على الزخم الدرامي. كان قد استخدم التكنيك ذاته في روايته John of Watts التي كان قد فرغ من كتابتها قبل أيام.
مرتدياً حذاء «نايكي» بعنق قصير ولون فاتح، وتيشيرتاً أبيض، وسروالاً قصيراً كاكياً، يتسكع أحمود على المرج للحظة قبل أن يتجه إلى داخل البناء. كاميرا المراقبة تسجل داخل البناء، وتظهر أعمدة خشبية وألواح خشبية معاكسة وأكوام من ألواح الـ«شيتروك» الجصية، وأنابيب وأسلاك. هنالك صناديق مبعثرة ورافعة شوكية صغيرة محشورة في الزاوية. لا يلمس «مود» أيّاً من هذه الأشياء. ينظر حوله، يحدق خارج إطار تسجيل الكاميرا باتجاه النهر خلف المنزل. ربما يتساءل كيف سيبدو المنزل عندما ينتهي بناؤه. ربما يستحضر صورة أسرة يمكنها دفع تكاليف العيش في هكذا مكان قريب من المياه.
ⓘ كتابة قصة من المنزل أمضى جاكسون ساعات طويلة في مشاهدة وإعادة مشاهدة مقاطع كاميرا المراقبة التي انتشرت على الإنترنت، كما شاهد مراراً الفيديو الذي أنتجته صحيفة نيويورك تايمز وتسلسل وقوع الحدث. من المهم هنا الانتباه إلى أن الكاتب كتب القصة كاملة دون أن يخرج من منزله.
«مود» ليس أول شخص يتجول في الموقع. سجلت كاميرات المراقبة آخرين منهم زوجان من البِيْضِ في إحدى الأمسيات وزوج من الأولاد البيض في يوم آخر. في أربع مناسبات، سجلت أيضاً ما يبدو أنه الشخص نفسه: شاب أسود نحيل ذو شعر طبيعي جامح ووشوم على كتفيه وذراعيه، رجل، لا يشبه «مود» في نظري. اسمح لي أن أضيف أن صاحب المنزل سيؤكد أنه لم يُسرق أو يُتلف أي شيء خلال تلك الزيارات جميعها.
ⓘ «اسمح لي أن أضيف» يستخدم جاكسون هنا ضمير المخاطب في قوله: «اسمح لي أن أضيف»، ليتقرّب من القارئ، ويتحدث إليه مباشرة، لأن ما يقول يستدعي التأمل. ففي مثل هذه الصيغة، يعرف القارئ أن الكاتب موجود هنا الآن، والكاتب يعرف أن القارئ موجود هنا أيضاً. القارئ يصبح شريكاً، وينخرط في فعل القراءة على نحو أعمق.
في هذه الأثناء، أحد الجيران يرتدي أفرولاً يرصد «مود» في أثناء تجواله في الموقع، ويتصل بالرقم 9-1-1. يقول: «هناك رجل في المنزل الآن». «إنه منزل قيد الإنشاء. 219 أو 220 ساتيلا درايف». الرجل الجار ينتظر عند تقاطع شارعي «جونز» و«ساتيلا درايف». تقول المرأة التي تلقت البلاغ: «أريد فقط أن أعرف ما الخطأ الذي يرتكبه؟».
ⓘ مصدر المعلومات اعتمد جاكسون على ما نُشر بكثافة عن مقتل «مود» آنذاك. ثم إنَّه تعاون مع صحافي من مدينة «برونزويك» لتزويده بالتقارير الأصلية للشرطة والطبيب الشرعي.
يقول المتصل: «سبق أن التقطته الكاميرا مرات عديدة. هذه الحوادث تتكرر هنا». وهذه إفادة لا يستطيع التأكيد عليها، رغم أنه يصف «مود» على نحو صحيح: «رجل أسود، تيشيرت أبيض».
ⓘ استخدام صيغة المضارع اختار جاكسون استخدام صيغة المضارع للحوار الذي دار بين الجار والمرأة التي تلقت البلاغ؛ وفي لحظات مطاردة مود وقتله، لأنه أراد أن يكون القارئ حاضراً ليشعر بالأحداث لحظة وقوعها، وكأنه يشاهد مقطع فيديو. صيغة الماضي ما كانت لتفي بهذا الغرض.
لسبر أغوار ما يعنيه الخروج للجري لـ«مود» في مقاطعة «جلين»، عليك أن تعرف أمراً أو اثنين عن ممارسة الجري الترفيهية. قبل الستينيات، كانت فكرة الهرولة Jogging غريبة لدى الجميع تقريباً ما عدا الرياضيين الجادين، وكان لسان حال الناس يقول: ما جدوى الجري؟ لكن في عام 1962، زار «بيل باورمان»، مدرب المضمار الأسطوري والمؤسس المشارك لشركة «نايكي»، نيوزيلندا والتقى زميله المدرب «آرثر ليديارد» الذي طوّر برنامج تدريب عبر البلاد. عاد «باورمان» إلى الولايات المتحدة متحمساً لما رآه. أطلق برنامجاً مشابهاً في «يوجين» (موطن دراسته ومكان عمله، جامعة أوريغون)، وأَلَّف كتيباً حول هذا الموضوع في عام 1966، وفي العام التالي نشر كتاباً مشتركاً بعنوان «الهرولة: برنامج لياقة بدنية مجاز طبيّاً للأعمار جميعها من إعداد اختصاصي قلبية ومدرب رياضي مشهور». أصبح الكتاب الأكثر مبيعاً، وبدأت الهرولة باعتبارها هواية أمريكية.
ⓘ تاريخ بطريقة أو بأخرى، يحاول ميتشل جاكسون الحديث عن مسقط رأسه في ولاية أوريغون. فمعظم كتاباته تدور حول هذه الولاية، وأراد أن يبني ذاك الرابط بينه وبين قصة «مود». أيضاً، هذه المعلومات التاريخية مهمة لبناء سياق للقصة، كيف ارتبطت رياضة الجري في أمريكا بالنخبة.
الهرولة، عموماً، تظل رياضة وتسلية موجهتين للبِيْض الموسرين.
اسمحوا لي أن أعترف بأنني أحد أندر الأمريكيين، ما يُعرف أيضاً بـ «أسود أوريغوني». على هذا، أشعر بأنني مجبر على مشاركة الحقيقة حول الولاية التي أنتمي إليها: إنها بيضاء. أنا أتحدث عن «حظر السود» في دستور الولاية الأبيض. في الوقت الذي كان يُلهم فيه «باورمان» سكان «يوجين» بولاية «أوريغون» للهرولة أميالاً حول أحيائهم في سراويل رياضية وأحذية ركض، كانت مدينة «يوجين» بيضاء بنسبة 97 في المئة. يمكن للمرء أن يحاجج في أن الطابع الأبيض للهرولة اليوم قد يكون، جزئياً، نتاج التركيبة السكانية لـ «يوجين». ولكن إذا جعلناها ٪100، فيمكن أن تُنسب هذه السمة الأحادية للجري إلى طريقة تسويقها، وإلى ذاك القسر الممنهج الذي وضع الجري في مكان ما داخل سلسلة تربط بين البذخ غير العملي والمجازفة التي لا يمكن تحملها، بالنسبة إلى عشرات الأشخاص من غير البيض.
والحق، أنه في الوقت الذي زار فيه «باورمان» نيوزيلندا، ونشر الكتاب الأكثر مبيعاً، كان الملايين من السود يعيشون في الجنوب الذي شهد قوانين «جيم كرو» للفصل العنصري؛ بحلول عام 1968، كان شتات السود الواسع قد فجع باغتيال «ميدغار إيفرز»، و«مالكولم إكس»، و«مارتن لوثر كينغ جونيور». وبحلول نهاية الستينيات وما بعدها، حُصِر السود الذي قَدِموا في أثناء «الهجرة الكبرى» (نزوح السود من الجنوب)، في الأجزاء الأكثر اكتئاباً من المدن الشمالية والغربية، تلك المناطق التي كانت الشوارع فيها أقل أماناً للمشي، ناهيك من الركض. عوامل كثيرة ثنت السود عن جني الفوائد الكثيرة للهرولة. وعلى الرغم من أن تركيبة العَدَّائين أصبحت أكثر تنوعاً على مدار الخمسين عاماً الماضية، فإنّ الهرولة، عموماً، لا تزال رياضة وهواية موجهة للبيض الموسرين.
أدعوكم لتسألوا أنفسكم، ما هو عالم العَدَّائين؟ اسألوا أنفسكم مَنْ يستأهل الجري؟ مَنْ له الحق؟ اسألوا مَنْ هو العدَّاء؟ ما عرقهم المزعوم؟ ما جنسهم؟ ما طبقتهم؟ اسألوا أنفسكم أين يعيشون، أين يركضون؟ أين لا يمكنهم العيش والركض؟ اسألوا ما القوانين التي تؤكد حقهم في العيش والركض -اللعنة- حقهم في الوجود في هذا العالم. اسألوا لماذا؟ اسألوا لماذا؟ اسألوا لماذا؟
ⓘ القوة التي يمتلكها رقم ثلاثة الحق، طرح هذه الأسئلة العميقة بهذه الكثافة المتتابعة جاءت فكرتها من مديرة قسم إنتاج المحتوى في شركة «هيرست»، والمحررة المشرفة على «حياة في اثنتي عشرة دقيقة». ثم أنهى جاكسون الفقرة بسؤال: «اسألوا لماذا؟» ثلاث مرات، لأنه يؤمن بالقوة التي يمتلكها هذا الرقم. فهو يدل على الكمال في معظم الثقافات. فنحن نحلف بـ«الثلاث»، ونطلق بـ«الثلاث»، ونعد حتى الثلاث لبدأ أمرٍ ما... إلخ.
أحبَّ أحمود أربيري الركض بالمقاييس كلها، لكنه لم يطلق على نفسه تسمية العدَّاء. هذا عيب في ثقافة الركض. أن يكون «مود» هدفاً للقوى البيضاء المهيمنة بسبب الركض، فهذا فشل مؤكد لأمريكا. تحقق من السجلات -تصاريح العبيد، قوانين التشرد، اعتقال سكيب غيتس، الناقد والمؤرخ في جامعة هارفارد، أمام بيته- لا يمتلك ال سود مطلقاً حرية الحركة التي يتمتع بها البيض.
الأحد 23 فبراير 13:08 | 2020 يجوب «مود» خارج المنزل، وبعد بضع خطوات فقط يبدأ بالركض. لا يعلم بأمر الشاهد الذي اتصل بالرقم 1-1-9، ولا يزال يراقبه. «إنه يركض الآن. ها هو يذهب الآن»، يقول الشاهد للمرأة التي تتلقى البلاغ على الطرف الآخر من المكالمة الهاتفية. «حسناً، ماذا يفعل؟» تقول المرأة. يقول الرجل: «إنه يركض في الشارع». تُظهر اللقطات «مود» مهرولاً في شارع «ساتيلا درايف» ويمر أمام منزل «جريجوري» و«ترافيس مكمايكل»، وهما أب وابنه. «جريجوري مكمايكل»، الشرطي السابق الذي جُرِّد من حقه في اعتقال الأشخاص؛ بسبب عدم حضوره تدريباً على كيفية «استخدام القوة»، يلحظ «مود» وهو يمر أمام منزله، فيعده مشتبهاً به. صرخ في ابنه «ترافيس، الرجل يجري في الشارع. هيّا بنا.» لأسباب يجب على مكمايكل الأب والابن الآن تفسيرها في المحكمة (كلاهما يواجهان 9 تهم، بما في ذلك القتل العمد والاعتداء الفاضح)، سلّحا نفسيهما -الابن ببندقية «ريمنجتون» طراز 870، والأب بمسدس «ماغنوم 357» - وركبا في شاحنة «فورد» بيضاء.
تقع «الجزر الذهبية» على طول الساحل الأطلسي بين مدينة «سافانا» بولاية جورجيا، ومدينة «جاكسونفيل» بولاية فلوريدا. تشمل المنطقة جزراً تسمى جزر الحاجز وهي «سانت سيمونز» و«سي آيلاند» و«ليتل سانت سيمونز» و«جيكيل»، بالإضافة إلى مدينتي «دارين» و«برونزويك». «ساتيلا شورز» الذي يعد جزءاً من الجزر الذهبية، هو حي غير مدمج بالأحياء المحيطة، ويضم عائلات من الطبقة العليا والمتوسطة؛ من المتقاعدين ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء؛ وأصحاب البيوت الموسمية والمقيمين في الحي على نحو دائم؛ وأولئك الذين انتقلوا حديثاً. يتميز الحي الصغير بطرق ضيقة تظللها أشجار البلوط المكسوة بالطحالب، وأشجار صنوبر «التايدا» الباسقة، وأشجار «التمر حنة»؛ ومنازل من طابق واحد أو طابقين مع مروج خضراء ومواقف بسيارات من أحدث الطرازات. المنازل الواقعة على جانب واحد من «ساتيلا درايف» - وهو الشارع الرئيسي في الحي - تتباهى بنهر «ليتل ساتيلا» الملون بالرواسب، والزاخر بأعشاب الـ«سبارتينا» الحبلية على طول أهواره الملحية التي تمتد أميالاً، ويُعد فناءً خلفيّاً مرفّهاً للحي.
ⓘ الوصف كيف استطاع جاكسون أن يصف المشهد السابق بهذه التفاصيل الأخَّاذة وهو في الحجر الصحي داخل منزله؟ لقد قرأ الكثير حول المنطقة، وشاهد خرائط جوجل وصورها. لم يكتف بذلك فقط، ساعده صحفي من «برونزويك» وأخبره بأنواع الأشجار الموجودة، ووصف نهر «ليتل ساتيلا» ولونه، وما إذا كان هذا اللون يتغير على مدار السنة.
منزل عائلة «مود» في «برونزويك»، حيث كان يعيش حين مقتله، يقع على بعد ميلين فقط من «ساتيلا شورز»، لكنه يبدو -بدقة أكبر- وكأنه في بلد آخر تماماً. متوسط دخل الأسرة بمقاطعة «جلين» هو 51000 دولار؛ في «برونزويك» هذا الرقم هو 26 ألف دولار. في المنطقة التي يسميها الشباب السود The Wick «ذا ويك» [فتيل الشمعة]، يبلغ معدل الفقر 38 في المئة، وهي نسبة صاعقة.
الجري جعل «مود» هدفاً للقوى البيضاء المهيمنة، ما يُعد إخفاقاً لأمريكا.
«ذا ويك» هو المكان الذي ولد فيه أحمود ماركيز أربيري في 8 مايو/أيار 1994. كان الطفل الثالث المدلل لـ«واندا كوبر جونز» و«ماركوس أربيري» الأب. وتضم الأسرة التي تنتمي إلى الطبقة العاملة، شقيقه الأكبر ماركوس «باكّ جونيور» وأخته ياسمين. أطلقت الأسرة على أحمود لقب «كويز»، وهي نسخة مختصرة من اسمه الأوسط، بينما أطلق عليه أصدقاؤه لقب «مود». كان لدى «مود» فَرَقٌ طفيف بين أسنانه الأمامية وبشرته الداكنة تلمع للأبد بسبب الساعات الطويلة التي يقضيها في الخارج تحت الشمس. التحق هو وأشقاءه بمدرسة «ألتاما» الابتدائية. حينئذ، التقى مود بصديقه المقرب أكيم «كيم بيكر»، وهو زميل يقيم في مجمع «ليسوود سيركل» للشقق السكنية. يتذكر كيم، وكان في تلك الأيام انطوائياً بديناً، أن «مود» كان أحد الأطفال المشهورين في الحي، وقد استحوذ على إعجابه بتقديم «وجبات خفيفة» له. سرعان ما أصبح الصديقان الحميمان لا ينفصلان: يجلسان معاً في الحافلة إلى المدرسة، يجوبان الحي بحثاً عن مكان للعب كرة السلة، أو لعب كرة القدم في لعبة تسمى «Hot Ball» أو لعبة لكرة السلة أطلقوا عليها اسم «Curb Ball».
ⓘ اللغة والترجمة اللغة التي يستخدمها جاكسون في كتاباته، هي اللغة التي يستخدمها السود في أمريكا. وهذا فعل مقاومة؛ مقاومة أولئك الذين يعدون لغة السود لغة إنجليزية غير فصيحة. لذلك كانت ترجمة هذه القصة صعبة، وتطلبت الكثير من الجهد والبحث لفهم السياق الصحيح.
أحد أقرب أصدقاء أحمود، أكيم بيكر، كانا يذهبان معاً أحياناً للجري.
في تلك الأيام، كان «مود» يحتمي تحت جناحي شقيقه «باكّ» الذي يكبره بثلاث سنوات فقط. «باكّ» عرّف «مود» أيضاً على الرياضة التي يحبها. حدث ذلك خلال بطولة BCS الوطنية لعام 2002. لاعب «باكّ» المفضل في ذلك الوقت كان شون تايلور، وعلى الرغم من أن فريق «أوهايو بوكيز» هزم فريق تايلور «ميامي هوريكانز» على نحو غير متوقع، إلا أنه أصبح لاعب «مود» المفضل أيضاً. في العام التالي، بدأ «مود» بلعب كرة القدم، ولمع بصفته لاعب الركض الخلفي، ولاعب الظهير الخطّيّ.
بدأ «مود» أيضاً لعب كرة القدم مع أصدقاء «باكّ»؛ الأولاد الذين يكبرونه بسنتين وثلاث سنوات أو أكثر. خلال مسابقة مبكرة في الحي، مسك أحد هؤلاء الأصدقاء «مود» بشدة لدرجة أن «باكّ» اعتقد أن شقيقه قد أصيب وتحرك للدفاع عنه. قبل أن يفعل ذلك، وثب «مود» واقفاً. «حينئذ عرفت أنه صلب العزيمة»، يقول «باكّ»، «وسيكون قادراً على الاعتناء بنفسه.»
قوى كثيرة منعت السود من جني الفوائد العديدة للجري.
وقتئذ تقريباً، أهدى والدا «مود» شقيقته كلبَ يوركشاير تَرْيَر أسمته «فلاف». ربما كان «مود» صعب المراس في الملعب، لكنه أمضى الساعات يمرح فيها مع «فلاف» في الخارج ويساعد أخته في مهام العناية به. تعلّق «فلاف» بـ«مود» حتى إنه كان ينام عند قدميه ليلاً عندما تكون «ياسمين» خارج المنزل.
انتقلت العائلة إلى منزل أبيض صغير في شارع «بويكن ريدج درايف» في «برونزويك» عندما كان مود في المدرسة الإعدادية، وفي المنزل الجديد ظل «مود» يشارك شقيقه غرفة واحدة. يقول «باكّ» لقد «كنت مهووساً بالترتيب». «لكن أحذية مود كانت مبعثرة هنا وهناك. التيشيرتات في مكان الغيارات الداخلية، والقمصان في مكان الجوارب».
في المدرسة الثانوية، عمل «مود» في ماكدونالدز لتأمين مصروف الجيب، ولكن أيضاً لمساعدة والدته التي غالباً ما كانت تعمل في وظيفتين. بحلول ذلك الوقت، كان «مود» قد اختبر أول تحول جذري، وتبنى بعضاً من أناقة أخيه، وبات يعرف الموضة. كان يفضل الجينز الضيق وقمصان البولو ذات الألوان الزاهية وقمصان الركبي، وأبقى شعره قصيراً بخطوط حادة عند الجبهة والصدغين. في بعض الأيام، كان «كيم» – وهو أول من يمتلك سيارة- ينقضّ فجأة على «مود»، ويتجها إلى جمعية «الجزر الذهبية للشباب المسيحيين»، ويلعبا كرة السلة، أو يمارسان الرياضة لست أو سبع ساعات متواصلة، ويقطعا مسافة قصيرة عبر الشارع إلى مول «جلين بليس» للحصول على كومبو البطاطس المقلية والجناحات في «أمريكا دِيْلِي»، ثم العودة مجدداً إلى اللعب والتدريب لساعات. أو يتجولان بالسيارة طالما إبرة عدّاد البنزين تسمح بذلك، ويستمعان إلى الرابر «لِيْلْ وين» أو «لِيْلْ بَوزي» أو «ويبي» أو «غوتشي ماني» (فناني «مود» المفضلين) عبر مكبرات الصوت في السيارة.
جيسون فون مدرب «مود» في فريق الناشئين.
التقى «جيسون فون»، مدرب فريق الناشئين في مدرسة برونزويك الثانوية، بـ «مود» في سنته الثانية، عندما وعده زميله المدرب بظهير قوي لفريقه. عندما غادر مود الغرفة، بنحالة جسمه وصغر حجمه، عبّر «فون» عن شكوكه سريعاً. «هل أنت جاد؟»، قال. «ماذا يستطيع هذا الفتى الصغير فعله؟» جاءته الإجابة سريعاً. تدريبات الفريق غالباً تضمنت تمريناً يسمى «أوكلاهوما» فيه يقف لاعبان على بعد ثلاثة إلى خمس ياردات ثم يتناطحان رأساً برأس. يتذكر «كيم» تفوُّقَ «مود» في التمرين، ليس بسبب قوته العضلية، بل لأنه «لم يكن يعرف الخوف في الملعب».
مزّق «مود» رباط الساق الصليبي الأمامي والغضروف المفصلي في أثناء مباراة في السنة الثانية. لو كان لاعباً آخر أقل تفانياً لاستسلم، لكنه أكمل عملية إعادة تأهيل شاقة. في الصيف التالي، أُصيبت ساقه والتزم مجدداً إعادة تأهيل صعبة. تقول أخته «ياسمين»: «اعتاد والدانا القول: إذا بدأتَ شيئاً، فلا تستسلم». ارتدى «مود» مقوّماً للساق خلال السنة الإعدادية مما أعاقه، ومن دون شك قلل فرصه في اللعب في الكلية. ومع ذلك، فإن حقيقة أنه استطاع أن يلعب، دليل آخر على الشخصية القوية. كانت هذه كرة القدم في جنوب جورجيا، ولعب «مود» في دوري ضمّ عدداً من اللاعبين الذين سيصبحون محترفين فيما بعد، كما لعب في مباراة كانت ضد مدرسة «فالدوستا» الثانوية، أحد أكثر فرق كرة القدم للمدارس الثانوية فوزاً في البلاد كلها.
ⓘ علاقة العاطفة بسرد الوقائع لاحظ كيف ينتقل ببساطة من المشاهد السابقة المشحونة عاطفياً برسم صورة واقعية ومحببة لـ«مود»، إلى مشهد الرعب التالي حيث يطارد ثلاثة رجال من البيض شاباً أسود، ثم -كما سنرى- يردوه قتيلاً في أحد شوارع «ساتيلا شورز». لا ينبغي للكاتب أن يفصل بين الشحن العاطفي وسرد الوقائع، ولكن عليه أن يعرف كيف ينتقل من هذا إلى ذاك، وعليه أن يتعلم أن سرد الوقائع لا ينبغي لها أن يتأثر بالعواطف.
الأحد 23 فبراير 13:10 | 2020، مكمايكل الأب والابن، ربطا حزام الأمان في شاحنتهما البيك-آب وانطلقا مسرعين خلف «مود»، يطاردانه على طول شارع «بورفورد»، وهو شارع ضيق آخر تظلله أشجار البلوط المورقة والصنوبر والمغنوليا. من الفناء الأمامي لمنزله، يرى «ويليام رودي بريان» جارَيه يلاحقان «مود»، ولأسباب سيضطر إلى الرد عليها أمام المحكمة (حيث يواجه تسع تهم، بما في ذلك القتل العمد ومحاولة ارتكاب جريمة الاحتجاز التعسفي)، ينطلق هو أيضاً بشاحنته البيك-آب خلفهما. يلاحق مكمايكل الأب والابن «مود» ويحاولان قطع الطريق عليه، لكن «مود» استدار راجعاً مجدداً -ربما تذكر المرّات كلها التي تملّص فيها من مهاجم محتمل- لكن هذه المرة وجد نفسه في مواجهة بيك-آب «بريان». يحاول «بريان» قطع الطريق على «مود»، لكن «مود» يتجنب الشاحنة، ويتجاوزها ويتجه نحو المنعطف الذي يؤدي إلى طريق «هولمز». ماكمايكل الأب، جريجوري، يخرج من مقصورة شاحنة ابنه بعَلَمِها الاتحادي على صندوق العدّة، ويصعد في الخلف مسلّحاً بمسدس «ماغنوم 357». ثلاثتهم يلاحقون «مود» وهو يعدو بأقصى سرعة على طول طريق «هولمز».
ⓘ أدوات السرد الروائي يستخدم جاكسون أدوات السرد الروائي، فهو أولاً روائي ثم صحفي. يستخدمها في بناء المشاهد، وخلق الصور، مثلاً عندما يرسم صوت المسامير السفلى للأحذية الرياضية على الأرضية الخراسانية، ومشهد غرفة تبديل الملابس كما سنرى فيما بعد. الكاتب الجيد يدفع باللغة؛ لا يكفي أن تورد الوقائع بدقة، عليك أن تبحث عن جرس الصوت في اللغة. كاتب النثر يستخدم أيضاً أداة «التكرار»، عندما يقول: «اسألوا لماذا، اسألوا لماذا، اسألوا لماذا؛» وفي مواضع كثيرة أخرى، وهي أداة قلّما يستخدمها الصحفي. أيضاً الفقرة الطويلة التي تساعد على إيجاد الإيقاع الموسيقي للنص. الكاتب الجيد إذا كان لديه الوقت الكافي يستطيع أن يحول فقرة طويلة إلى قطعة موسيقى.
لعب «مود» في مباراة النجوم الصاخبة بين فلوريدا وجورجيا بعد موسمه الأول، لكنه لم يحصل على منحة دراسية لكرة القدم. بعد التخرج، التحق بكلية جورجيا الجنوبية التقنية في مدينة «أميريكوس»، ووضع نصب عينيه أن يصبح كهربائياً.
مثل «مود»، كنتُ رياضياً شغوفاً في المدرسة الثانوية (كانت رياضتي الطوق) التي لم يتسن إدراجها في برنامج جامعي رئيسي. ومثل «مود»، التحقت بكلية صغيرة (تابعة لجامعة محلية) في ولايتي. شاهدت أنا و«مود» الأصدقاء يحصدون المنح الدراسية، وينطلقون إلى البلدات أو المدن في أماكن أخرى، ويواصلون ممارسة الرياضة التي أحببناها. ترك «مود» الكلية التقنية بعد عام، وعاد إلى «برونزويك» ومنزل والدته. أنا أيضاً تركت أول كلية محلية. لكن على عكس «مود»، لم أكن مضطراً للعودة إلى منزل والدتي؛ لأنني كنت أعيش معها بالفعل. «جيمس جي. تي. تريمينغز»، زميل آخر لـ«مود» في الجامعة، يعتقد أن الحنين إلى الأسرة كان السبب الأساسي لعودة «مود» المبكرة من الكلية. لكنني أظن أن «مود» قفل راجعاً لأن حياته انتهت بصفته رياضيّاً، وخيبة الأمل قد تطحن حتى الأشخاص أقواهم.
جيمس جي. تي. تريمينغز في سيلدن بارك ببرونزويك.
بعد تخرجه بعام من الثانوية، أُلقي القبض على «مود» لحمله بندقية، وحُكِم عليه بخمس سنوات من المراقبة التي انتهكها بسرقة معروضات. بعد سنوات قليلة من تخرجي في المدرسة الثانوية، اُعتقلت لحيازة مخدرات وبندقية، وقضيت 16 شهراً في سجن الولاية.
«مود» مات – يا إلهي، لماذااا؟ - وأنا، بنعمة من الله، كاتب وأستاذ جامعي مقبل على منتصف العمر.
ⓘ لماذا أدخل جاكسون نفسه في القصة؟ فعل ذلك ليظهر تعاطفه بصفته كاتباً وصحفياً مع «مود»، وأيضاً لكي يظهر الفرص التي كانت متاحة أمامه. فجاكسون اعتقل مثل «مود» ودخل إلى السجن، بينما «مود» لم يدخل السجن. كان ثمة مسدس بحوزة جاكسون. جاكسون أصبح أستاذاً جامعياً، بينما «مود» قُتل. كل هذه المقارنات تظهر كيف يمكن قطع الطريق أمام الشباب السود في أمريكا ومنعهم من إظهار أفضل ما لديهم. عائلة «مود» كانت واثقة أن سبب فشله هو عدم حصوله على منحة لدراسة كرة القدم الأمريكية، ما سبب له خيبة الأمل. المقارنات التي يقوم بها جاكسون بإدخال نفسه في القصة، تُضفي بُعداً وعمقاً عليها.
حتى لو كان «مود» يفكر في إعادة التسجيل في الكلية التقنية، فإنّه فقد إغراء الفكرة بمجرد أن التقى أول علاقة حب جادة في عام 2013. «شينيس جونسون» رأت «مود» لأول مرة عندما دخل ماكدونالدز ذات يوم، وأقنع المدير بإعادته إلى وظيفته السابقة. سرعان ما كان الحبيبان، وكلاهما خجولان، يرمق أحدهما الآخر في مناوباتهما. من غير الواضح مَنْ الذي بدأ بالخطوة الأولى. يقول «كيم» إن «مود» تحدث لأسابيع عن الفتاة الجميلة في مكان عمله، وكيف كان متوتراً من الاقتراب منها، إلى أن شجعه كيم قائلاً: «يا رجل، أنت مود. ما عليك سوى أن تسير إليها وتقدم نفسك». بحسب رواية «شينيس»، بدأت علاقتهما التي دامت خمس سنوات عندما عرضت على الصبي الوسيم «ماك فلوري» مجانية.
شينيس جونسون في جلين أوفرلوك بارك في برونزويك. التقى مود بشينيس عندما كانا يعملان معا في مطعم ماكدونالدز.
في موعدهما الأول، أخذها «مود» بسيارة «كامري» ذهبية اللون، اشترتها له والدته، ويقول «تي. جي.» إنه كان يعاملها وكأنها سيارة مرسيدس. مرتدياً قميصاً أنيقاً أبيض الياقة وحذاء «إير فورس وان» متلألئاً من «نايكي»، دعا «شينيس» إلى مأدبة مأكولات بحرية، فتح لها الأبواب، وسحب الكرسي لتجلس ودفع الفاتورة بالكامل من دون تردد. تقول والابتسامة ظاهرة في صوتها «عندما كنت معه، لم أكن أقلق بشأن أي شيء». في أول عيد فالنتين للثنائي، قاد «مود» سيارته طول الطريق إلى «سافانا»، واشترى لها دُبّاً من «بيلد-آ-بير» واسماه «كويز»، وسلمه لها جنباً إلى جنب خاتم الالتزام ما قبل الخطوبة على شكل قلب.
الأحد 23 فبراير 13:14 | 2020، تظهر مشاهد مسجلة بالهاتف «مود» على طريق «هولمز»، يفرّ مبتعداً عن شاحنة «بريان» البيك-آب، لكن باتجاه شاحنة «ماكمايكل» البيضاء. «بريان» في هذا الوقت تقريباً، أخرج هاتفه وبدأ في التصوير. في هذه الأثناء، «جريجوري مكمايكل» يتصل بالرقم 1-1-9. «آه، أنا هنا في ساتيلا شورز،» قال لمتلقي البلاغات. «هناك رجل أسود يجري في الشارع». متلقي البلاغات يسأل أين. يقول «لا أعرف في أي شارع نحن». «توقف عندك. اللعنة. قف!» التسجيل يظهر صراخه في «مود».
«مود»، هارباً الآن لما لا يقل عن ست دقائق، يركض نحو «ترافيس ماكمايكل» ذو الوجه الأحمر الذي يقف عند باب شاحنته البيك-آب المفتوح مصوباً بندقيته، ونحو «جريجوري مكمايكل» الجاثم في القسم الخلفي من الشاحنة وبيده مسدسه، يشعر وكأنه وقع في فخ، لكن ربما يشعر وكأن شجاعته تُخْتبر مجدداً. ينعطف «مود» فجأة من اتجاه إلى آخر. يندفع حول الجانب الأيمن من الشاحنة، ثم أمامها. يقطع «ترافيس مكمايكل» الطريق عليه أمام مقدمة الشاحنة، ويطلق النار على «مود» في لمح البصر. صوت الطلقة يتخلل تسجيل المشهد الذي يصوره «بريان» بهاتفه. «ترافيس!» يصرخ جريجوري مكمايكل ويسقط هاتفه في صندوق الشاحنة.
ⓘ هل يحق وضع الافتراضات؟ لاحظ هنا، وفي أماكن أخرى مختلفة، يضع جاكسون «افتراضات» حول ردود فعل «مود»، كما في هذه الجملة: «يشعر، وكأنه وقع في فخ، لكن ربما يشعر، وكأن شجاعته تُخْتبر مرة أخرى». فمن أين جاءت هذه الثقة لدى جاكسون بأن «مود» شعر كذلك، وهل يحق للصحفي وضع مثل هذه الافتراضات؟ نعم يحق للصحفي. الصحفي إنسان وليس آلة، ويستطيع فهم «بطل» قصته، كما يستطيع أي إنسان فهم شخص آخر من خلال التحدث مع أقاربه وأصدقائه. الأمر لا يتعلق بالثقة، بل يتعلق بضرورته أداةً للسرد. الصحفي يقدّر ردود الفعل والأحاسيس المحتملة للشخصيات التي يكتب عنها استناداً إلى المعلومات المتاحة وفهمه للوضع. ومن المهم أن يقوم بتوضيح هذه الافتراضات في النص إذا كانت تؤثر في التفسير الإجمالي للقصة.
انفجار الطلقة يصيب «مود» في صدره، مخترقة رئته اليمنى وأضلاعه وعظم القصّ في منتصف الصدر. ومع ذلك، بطريقة أو بأخرى، يتصارع مع «ترافيس ماكمايكل» لأخذ البندقية من يده، وبطريقة ما، يتمكن من لكمه. جريجوري يراقب للحظة من مكانه. في هذه الأثناء، يواصل «برايان» التصوير. يطلق «ترافيس» النار من بندقيته مجدداً، انفجار الطلقة يحدث خارج إطار تسجيل كاميرا «بريان»، لكنه يترك خطاً من الدخان يتصاعد في إطار التسجيل. «مود» الذي تلطخ قميصه الأبيض الآن ببقعة من الدماء، يواصل التصارع مع «ترافيس ماكمايكل»، فهو يقاتل الآن من أجل حياته. في خضم العراك، يطلق «ترافيس ماكمايكل» رصاصة أخرى من كثب على «مود»، فتخترق صدره العلوي. يرمي «مود» لكمة ضعيفة أخرى، يترنح بضع خطوات، ويسقط على وجهه بالقرب من خطوط المرور منتصف الطريق. يتراجع «ترافيس» والبندقية في يده، يشاهد «مود» ينهار، ولا يقدم أدنى رعاية له. والده الذي لا يزال ممسكًا بمسدسه، يركض إلى حيث يتمدد «مود» على وجهه، والدماء تتدفق من جروحه.
نصب تذكاري لـ«مود» في مكان مقتله بساتيلا شورز.
كان «مود» يركض وحده يوم مقتله. لا أحد يعرف على وجه اليقين الطريق الذي سلكه قبل أن يصل إلى «ساتيلا شورز»، لكنه انطلق من منزله، ما يعني أن ثمة فرصة قوية لمروره في أثناء الجري بمنازل ترفع علم الكونفدرالية أو علم «جادسدن» (لا تطأ على الممتلكات!)، تلك المنازل التي عليها لافتات ممنوع التعدي على ممتلكات الآخرين. للوصول إلى «ساتيلا شورز» من «بويكين ريدج»، كان عليه أيضاً عبور طريق الولايات المتحدة رقم 17، وهو طريق سريع كان لسنوات وبحكم الأمر الواقع حدّاً فاصلاً بين مناطق السود والبيض.
ظل مود يجري لسنوات، لكن ليس هناك اتفاق في الرأي كيف بدأ بممارسة هذه الرياضية. وفقًا لشقيقته «ياسمين» التي كانت يوماً ما عدّاءة طموحة، سألها «مود» مرّة عام 2017 عن عدد الأميال التي قطعتها في اليوم الواحد، وبعد فترة وجيزة بدأ يقوم بذلك هو نفسه. تقول إن ذلك كان طبيعياً بالنسبة لأخيها؛ لأنه أحب الهواء الطلق، وأراد «الترويح» عن نفسه. يؤكد «أكيم» على أن مود استخدم الجري نوعاً من العلاج، لكنّه يعتقد أن دافعه الرئيسي كان الحفاظ على لياقته بعد كرة القدم. هذه النظرية ستحدد التاريخ الذي بدأ فيه بالجري إلى بضع سنوات قبل عام 2017.
ⓘ الخلفيات لماذا جاكسون حريص على معرفة تاريخ علاقة «مود» مع رياضة الجري؟ لأنه أولاً كتب القصة لمجلة متخصصة برياضة الجري، وثانياً لأن علاقة «مود» مع الجري كان استثنائياً، فليس اعتيادياً أن يمارس شاب رياضة الجري خارج الأنشطة الرسمية. الشباب عادة يمارسون الجري لأن المدرب يجبرهم على ذلك. في حالة «مود» كان الأمر مختلفاً، والقارئ يحتاج يفهم هذا لبناء الصورة الأكبر للقصة.
كان «مود» يركض مرتدياً قميصاً أبيضاً وسروالاً قصيرا كاكياً. كان يركض بدون قميص مرتدياً شورت كرة السلة. كان يركض مرتدياً قميصاً من دون أكمام وحذاء كرة سلة. أو كما يلخص «كيم» كان «بمقدرته الجري بأي شكل كان». في بعض الأحيان، أقنع «مود» صاحبه «جي. تي.» الذي «لا يحب الجري بهذه الطريقة»، واثنين آخرين من زملاء الحارة، للذهاب إلى مجمع «نورث جلين كانتري» الترفيهي والركض أميالاً حول البحيرة في المنتزه. في أوقات أخرى، عند عودة «كيم» إلى المنزل من الكلية، كان يتجول هو و«مود» إلى أحد طرفي جسر «سيدني لانيير»، وهو أطول جسر في كل جورجيا، يقومان ببعض تمارين الإحماء، ويمارسان الجري ذهاباً وإياباً عبره، على بعد مسافة أقل بقليل من ثلاثة أميال. الثنائيان كانا يحافظان على وتيرة جري ثابتة. «لكن، في بعض الأحيان كان يدفعني» للجري أسرع، يقول «أكيم».
لا يوجد دليل على أن «مود» كان يتدرب على الجري لعشرات الكيلومترات أو لماراثون كامل أو نصفه، أو كان مهووساً بعدد الأميال التي يقطعها أو مدى سرعته. مع ذلك، من الواضح أنه كان شاباً يحب الجري، وكان بالمقاييس كلها عدّاءً موهوباً. من الواضح أيضاً بالنسبة لي أن القوى نفسها التي حوّلت الجري من هواية وليدة في ولايتي البيضاء إلى صناعة عالمية بمليارات الدولارات، خطّت أيضاً ثقافة كانت في أحسن الأحوال لا ترحب بأمثال «مود»، وفي أسوأها تقيّده.
الأحد 23 فبراير 13:15 | 2020، وفقًا لتقرير الشرطة، قام «جريجوري مكمايكل» بقلب «مود» على ظهره للتحقق ما إذا كان يحمل سلاحاً. قام بتفقده على الرغم من حقيقة أن «مود» لم يُشهر السلاح، أو يطلق الرصاص في أثناء أي جزء من رحلته، ولا حتى عندما حُصِر بين رجلين أبيضين مسلحين ورجل أبيض آخر غير مسلح، لم يعرف «مود» بوجوده خلفه. سيصل ضباط شرطة مقاطعة «جلين» في غضون ثوانٍ من إطلاق النار، وصفارات الإنذار تدوي على طول طريق «ساتيلا درايف». ولكن قبل أن تصل سيارات الشرطة هذه إلى مكان الحادث، فإن «ترافيس ماكمايكل» - وفقًا لتصريح «بريان» للمحققين في مايو - سيطلق على «مود» اسم «ز*ـجي لعـ*ـن».
الجسر الذي استخدمه «مود» و«كيم» للركض، سُمّي باسم شاعر القرن التاسع عشر الكونفدرالي «سيدني لانيير». من الصعب تخيل جورجياً يضاهي «لانيير» في مرتبة الشرف. ليس فقط لأن الجسر سُمّي باسمه، بل هناك أيضاً مقاطعة «لانيير» التي تحمل الاسم نفسه في جنوب جورجيا، وبحيرة «لانيير»، وهي خزان للمياه في شمال جورجيا. بدا «كيم» مندهشاً عندما ذكرت له ارتباطات «لانيير» بالكونفدرالية (ولايات الرقيق)، ما يجعلني أتساءل عن مدى معرفة «مود» بتاريخ موطنه. سواء كان الشباب على دراية بالسيرة التقديسية لـ«لانيير» أم لا (مَنْ يقف لقراءة لوحة على جسر؟) فإن كل جريٍ على هذا الجسر كان إهانة، كان طريقة ماكرة لإذلالهم وإذلال شعبنا. نعم، شعلة «تيكي» التي يحملها العنصريون حليقي الرؤوس تهدد المشهد. لكن ماذا عن جحافل الرجال المتعصبين غير المرئيين ورموزهم التي لا تعد ولا تحصى؟
توفي لانيير في عام 1881، ما يعني قرب نهاية عهد «إعادة الإعمار» وبداية قوانين «جيم كرو» في الفصل العنصري. في عام 1964، بعد بضعة أشهر من إعلان «قانون الحقوق المدنية» الذي مهد للنهاية القانونية لـ«جيم كرو»، قدّم فيلم وثائقي في التلفزيون الوطني التعليمي (وهو السّلف لـ«بي بي إس» بوبليك برودكاستنغ سيرفيس) «برونزويك» بكونها مدينة كانت قادرة على الاندماج دون إراقة الدماء التي سادت في كل مكان آخر في الجنوب. فاز فيلم «ذا كوايت كونفليكت» (النزاع الهادئ) بالعديد من الجوائز وكان سبباً رئيسياً في سمعة «برونزويك» باعتبارها «مدينة جنوبية نموذجية».
ⓘ تاريخ استطاع جاكسون عن طريق البحث على جوجل التعرف أكثر إلى تاريخ المدينة. كان من الضروري التحدث عن هذا التاريخ؛ لأن «أكيم» الذي كان يركض فوق الجسر مع «مود»، لم يكن يعرف شيئًا عن تاريخ الشاعر الذي سُمِّي الجسر باسمه. لا تزال هنالك الكثير من رموز «الكونفدرالية» والعبودية والقمع في أمريكا، والأشخاص السود الذين يمرون من جنبها لا يعرفون عنها شيئاً. فهي مثل وحش غير مرئي، ومن المهم إظهاره للعلن. فالكتابة فعل مقاومة.
في 23 فبراير 2020، خرج شاب للجري فأُعْدِم من دون محاكمة بمقاطعة «جلين»، جورجيا.
ربما لم تكن «برونزويك» مثل نظيراتها من مدن الجنوب في إراقة الدماء، إلا أن دعاة الفصل العنصري لا يزالون يقاومون بشدة. في أحد الأمثلة، تم استدعاء «كو كلاكس كلان» لتهديد السود الذين يحاولون إدماج صالة بولينغ محلية. في مكان آخر، ملأ البِيْض مسبحاً عاماً بالأوساخ لمنع أطفال سود من السباحة. أعلن كثيرٌ من السكان اندهاشهم من مقتل «مود» والتقليل من أهمية العرق. أما أولئك الذين يجادلون بأن روح «سيدني لانيير» وأنصار الفصل العنصري قد ولّت، أو أن «ماكمايكل» الابن ربما لم يقل ما ادّعاه «بريان» في شهادته لدى الشرطة، ثمة أدلة حديثة -بما في ذلك منشورات «ماكمايكل» على الشبكات الاجتماعية التي استشهد بها المحققون- وكمثال آخر، أعيد هنا نشر هذا البوست من فيسبوك كتبه «كريس بوتنام»، زميل دراسة سابق لـ«ترافيس مكمايكل» في المدرسة الثانوية:
«لن أكون أحد زملاء ترافيس مكمايكل الذين جلسوا هنا، ولم ينبسوا ببنت شفة. كان دائماً نموذجاً للمتخلف العنصري المحب للسلاح، وكنا جميعاً نعلم أن شيئًا كهذا سيحدث يوماً. أتذكر كثير من الأشخاص الذين كانوا هم أنفسهم عنصريين على نحو علني للغاية، وكانوا يمزحون كيف أنهم «على الأقل [ليسوا] ترافيس.»
متظاهرون يسيرون في الشارع بعد مثول جريجوري وترافيس مكمايكل أمام المحكمة، وهما المتهمان بمقتل أحمود أربيري في 4 يونيو 2020 في «برونزويك»، جورجيا.
عرّفت «الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين» ذات مرة «الإعدام بدون محاكمة» على أنه حالة وفاة حيث: 1) هناك دليل على مقتل شخص، 2) الوفاة غير قانونية، 3) شاركت مجموعة من ثلاثة أشخاص على الأقل في القتل. وفقًا لـتقرير «الإعدام بدون محاكمة في أميركا»، الذي صدر عن «مبادرة العدالة المتكافئة»، كان هناك 4084 حالة إعدام خارج نطاق القانون في الولايات الجنوبية بين عامي 1877 و1950. من أصل 594 عملية إعدام بدون محاكمة قانونية تم الإبلاغ عنها في جورجيا خلال تلك الفترة – وهي واحدة من أربع ولايات فقط لم تصدر بعد قانوناً بشأن جرائم الكراهية- ثلاث عمليات وقعت في مقاطعة «جلين».
بين عامي 1920 و1938، رفع مقر «الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين» في نيويورك علماً أعلن «مقتل رجل بدون محاكمة قانونية أمس» للإشارة إلى جريمة قتل تناسب معاييرهم.
أُعدِم اليوم صبيٌ دون محاكمة: لأنه سار مغطى الرأس في الشارع، ورفض أمر حارس الحي المتحمس. أُعدِم اليوم رجلٌ دون محاكمة: لأنه كان يبيع السجائر المفردة [وليس العلبة] خارج محل بقالة. أُعدِم اليوم مراهقٌ بدون محاكمة: بسبب نزاع حول سجائر «السيجارلو». أُعدِم اليوم طفلٌ دون محاكمة: لحمله لعبة خارج مركز للأنشطة الترفيهية. أُعدِم اليوم رجلٌ دون محاكمة؛ بسبب تجاوزه إشارة وقوف مرورية، ولم يكن يحمل سلاحاً. بسبب بيع الأقراص المدمجة خارج المتجر. بسبب تصريحه بأنه يحمل سلاحاً مرخصاً ومحاولته إخراج الرخصة. أُعدِمت اليوم امرأة من دون محاكمة؛ لأنها كانت نائمة. واليوم أُعدِم رجل آخر بدون محاكمة: للاشتباه بمحاولته الشراء بـ$20 مزورة. مـ ـ ـوـ ت! في فلوريدا، نيويورك، ميسوري، أوهايو، ساوث كارولينا، لويزيانا، مينيسوتا، كنتاكي، ومرة أخرى في مينيسوتا.
ⓘ لماذا لم يذكر أسماء كل هؤلاء؟ أراد جاكسون ألا تطغى قصة أخرى على قصة «مود» ومنحه المكانة اللائقة به، وسرد قصته الحقيقية. مع ذلك، لم يكن ممكناً تجاهل الأرواح الكثيرة؛ لأنهم فقط من السود. وثمة ملمح قوي آخر هنا: فجاكسون يقول للقارئ: لا أحتاج أن أخبرك بأسمائهم، فأنت تعرفهم جيداً، أنهم في كل مكان.
الأحد 23 فبراير 13:16 | 2020، «شخصان على طريق هولمز. إطلاق أعيرة نارية. رجل على الأرض، ينزف بغزارة،» يقول ضابط الشرطة عبر جهاز اللاسلكي. يلفظ «مود» أنفاسه الأخيرة بالقرب من تقاطع طريق «هولمز» و«ساتيلا درايف»، على بعد 300 ياردة فقط من المكان الذي تجول فيه قبل 10 دقائق، ودخل موقع بناء. سيطوّق الضباط المكان ويبدأان التحقيق. سيستجوبون «مكمايكل» الأب والابن -يدا «جريجوري» ملطختان بالدماء بسبب قلب «مود» على ظهره- و«ويليام بريان». وفي فعل يمثل بحد ذاته ممارسة عنف آخر، سيتركون الثلاثة يمضون في حال سبيلهم كرجال أحرار لمدة ثلاثة أشهر تقريباً.
ⓘ كم مرةً أُعيد تحرير القصة ومراجعتها؟ رغم شهرة جاكسون بكونه روائياً حائزاً على جوائز مرموقة، إلا أن المراجعة وإعادة التحرير لا تعرفان الشهرة؛ لا بل هما سبب الشهرة. هيكلية القصة من بداياتها كانت قصة داخل قصة، ولم يتغير ذلك. المشهد الافتتاحي والمشهد الختامي ظلا في مكانيهما، ما تبقى أعيد تحريره مراراً بنقل هذا المقطع إلى هناك، وإضافة معلومة إلى هنا، وتشذيب النص هنا وهناك.
في 23 فبراير/شباط 2020، أعدِم شاب خرج للجري في مقاطعة «جلين» بولاية جورجيا.
كان اسمه أحمود ماركيز أربيري، كان يُدعى «كويز» من قبل محبيه، و«مود» من قبل معظم الناس الآخرين. وأريدك أن تعرف أن «مود» كان لديه موهبة في ترك الانطباعات الجيدة ولديه موهبة خاصة في تقليد «مارتن لورانس». أريدك أن تعرف أن «مود» كان مولعاً بالحلويات، وكان يطلب كعكة «الفَدْج» من والدته في حفلات أعياد الميلاد، وغالباً كان يشارك الكعكة مع أخته الكبرى. أريدك أن تعرف أن «مود» كان يوقع البطاقات التي يشتريها لوالدته باسم «الطفل المدلل». أريدك أن تعرف أن «مود» وشقيقه كانا يرتديان الخوذات التي يستخدمانها في لعبة سيارات «الكارتينج»، ويلعبان بحذر على «الترامبولين»، وأنه لم يخذل قطّ شقيقه الأكبر. أريدك أن تعرف أن «مود» هرس خنصره وهو يلعب بالطوق في المدرسة الثانوية وبدلاً من معالجة الإصبع كما نصحت «ياسمين»، تركه يُشْفى من تلقاء ذاته- وظل ملتوياً للأبد. أريدك أن تعرف أن «مود» لم يكن يتأفف كلما بدأ شيئاً جديداً، وعندما يتأفف الآخرون، كان يوبخهم قائلاً «لا تبتئس يا رجل. افعل ما عليك فعله للتعامل مع الأمر». أريدك أن تعرف ما أخبرتني به «شينيس» عن «مود» أنه في بعض الأحيان كان يسجل حديثهما ليتمكن من الاستماع إلى صوتها عندما تكون بعيدة عنه. ما ينبغي أن تعرفه عن «مود» هو أنه كان يعشق طفلي أخيه «ماركوس الثالث» و«ميكا أربيري»، وأنه عندما كانا طفلين، كان يأخذهما في نزهات طويلة في العربة إلى أن يهدآ. ما ينبغي أن تعرفه عن «مود» أن «ياسمين» عندما سألتها صديقة في الجامعة بأي والديها ستتصل أولاً إذا ألمّت بها مشكلة، قالت إنها ستتصل به وليس بوالديها. أريدك أن تعرف أن «مود» كان متذوقّاً شغوفاً بساندويتش «ماك تشيكن» بالجبن. أريدك أن تعرف أن «مود» و«كيم» كانا قريبين جداً لدرجة أن الصدف شاءت أن كليهما كسر قدمه في اليوم اللعين ذاته في حادثتين منفصلتين في أثناء رفع الأثقال، وأن «مود» كان يمازح بشأن ذلك عندما كانا يتعالجان في غرفة المدرب. ينبغي أن تعلم أن «مود» كان يحلم بالعمل كهربائياً وامتلاك شركة إنشاءات. ينبغي أن تعلم أن «مود» كان يتحدث كثيراً عن رغبته في أن يصبح زوجاً وأباً عظيماً. ينبغي أن تعلم أنه كان سيخبر أولاده أن يشتروا جميعاً قطعة أرض شاسعة، وأن يبنوا عليها منازلهم، وأن يعيشوا مع عائلاتهم في مجمع مسوّر. ينبغي أن تعلم أن «مود» لم يسافر قط على متن طائرة، مع أنه سافر في رحلات إلى جامايكا واليابان وأفريقيا. ما يجب أن تعرفه عن «مود» أنه عندما طارده «ترافيس مكمايكل»، «وجريجوري مكمايكل»، و«ويليام رودي بريان» وقتلوه قبل أقل من ثلاثة أشهر من عيد ميلاده السادس والعشرين، ترك وراءه والدته «واندا»، ووالده «ماركوس»، وشقيقه «باكّ»، وشقيقته «ياسمين»، وجدته من ناحية أمه «إيلا»، وأبناء أخيه، وستة أعمام، و10 عمات، ومجموعة من أبناء عمومته، وأن حياتهم جميعاً ستكون أفقر بما لا يقبل الجدال، وما لا يمكن تخيله، وما لا رجعة فيه، بسبب غيابه.
ⓘ تكرار الصدارة هذا المقطع أروع مقطع في القصة، استخدم فيه جاكسون إيقاعاً بلا هوادة: أريدك أن تعرف.. ينبغي أن تعلم.. يجب أن تعرف.. مستخدماً تكرار صدارة الجملة، ما يذكر بالنصوص الدينية والكتاب المقدس. يكرر الصدارة ليبني نمطاً، ثم يكسره بنمط جديد. وأيضاً هذا الانتقال من أريد، ينبغي، يجب.. إذ تزداد كثافة المعنى وأهميته كلما تقدم المقطع نحو نهايته. ثم بهاء الجملة الأخيرة باستخدام «ما لا» : «وأن حياتهم جميعاً ستكون أفقر بما لا يقبل الجدال، وما لا يمكن تخيله، وما لا رجعة فيه، بسبب غيابه.»
كان «أحمود ماركيز أربيري» أكثر من مجرد انتشار مقطع فيديو. كان أكثر من هاشتاج أو اسم على قائمة الضحايا المأساويين. كان أكثر من تقرير أو مقال أو تأبين. كان أكثر من عنوان، أو افتتاحية، أو حزمة أخبار، أو تغطية خبرية. كان أكثر من إعادة تغريد أو مشاركة منشور. كان، بلا جدال، أكثر من الـ«لايكات» أو إيموجي تذرف الدمع، أو على شكل قلب أو أيادٍ تتهدج بالصلاة. كان أكثر من صورة على تيشيرت أو لافتة. كان أكثر من تشريح للجثة، أو سجل للتحقيق، أو تقرير للشرطة، أو جلسة استماع مباشرة. إنه، بكل تأكيد، أكثر من سورة غضب سريعة الزوال من صديقك الليبرالي الأبيض. كان أكبر من رمز، أكبر من حركة، أكبر من قضية. كان.. محبـوباً.
ⓘ كان.. محبوباً في نهاية المقطع يستخدم جاكسون جملة استلهمها من رواية توني موريسون «نشيد سليمان» وتُرجمت للعربية بعنوان «أغنية سليمان»: كان محبوباً. لكن جاكسون تلاعب بعلامات الترقيم واستخدام الحروف المائلة على الشكل التالي: He. Was. Loved. فأهم فكرة في نهاية الأمر هي أن هذا الشاب كان «محبوباً».
طريق «ساتيلا درايف» حيث قتل أحمود أربيري في «برونزويك»، جورجيا.
تمكن بعض هؤلاء الأحباء من مشاهدة «مود» يلعب المباراة الأخيرة في موسمه الأول، وهي مباراة خارج ملعبه في مدرسة «ليكسايد إيفانز» الثانوية. في غرفة خلع الملابس، يقدم المدرب حديثاً حماسياً يثير الهمم، و«مود» الذي يرتدي جوارب طويلة زرقاء بألوان مدرسته وشريط معصم أبيض متلألئاً، يقود الفريق في ترتيلة ما قبل المباراة. يصيح: «أنتم جميعاً لستم جاهزين». «شـييييييت،» يصيحون، ثم يهيمون على وجوههم خارج غرفة خلع الملابس، المسامير السفلى لأحذيتهم تصدر القرقعة على الأرضية الخراسانية، وإلى أرضية الملعب. مود كابتن الفريق، يختال متجهاً إلى خط 50 ياردة للمشاركة في القرعة.
ⓘ لماذا أنهى القصة بمشهد ختامي عن مباراة أيضاً؟ لأن كرة القدم كانت حب حياة «مود»، ولأن جاكسون أراد لقصته أن تكون على شكل دائرة كاملة (بدأ بمباراة وأنهى بالمباراة ذاتها)، ليس لها بداية أو نهاية؛ دائرة جهنمية من قتل وإعادة قتل إلى ما لا نهاية. وساعده على ذلك أن هذه المباراة الأخيرة كان مغطاة إعلامياً، ومن ثم كان هنالك معلومات كافية عنها. وثمة ملمح مهم آخر، أن نهاية مسيرة مود مع كرة القدم كانت في هذه المباراة. ومنذ ذلك الحين بدأت الأقدار تفعل فعلها إلى أن انتهت بمقتله.
نادراً ما ينهي رياضي الموسم بفوز. «مود» الذي سيمكّن الفريق من الحصول على جائزة قطع معظم الكرات من الخصم في ذلك الموسم، يتألق في جميع أنحاء الملعب، ويوقف الهجمة بعد الأخرى، مع ذلك «قراصنتـ»ـه يرتكبون أربعة ارتدادات في الشوط الأول، ويتخلفون عن الفريق الخصم بـ 20 نقطة. لكن الفريق – وسط الهتافات- ينجح في استجماع قواه في الشوط الثاني، ويحوز على أكبر فرصة واعدة عندما يقطع «مود» الكرة في منتصف الربع الرابع، وينطلق في خط متعرج هنا، ويناور هناك، ويهاجم منتصف الملعب، والريح تصفر عبر خوذته، ورشاقة ساقيه تدفعه إلى خط الـ 50، الـ 40، الـ 30، وآااه بات قريباً جداً، لكن لم ينجح في الوصول إلى خط النهاية.
لم يسجل «القراصنة» نقاطاً في الهجمات السابقة. يخسرون المباراة ويغيبون عن التصفيات لأول مرة منذ نصف عقد. بينما يحتفل خصمهم، ويعتصر المعجبون طريقهم للخروج من المدرجات، يتحلّق «مود» وبعض زملائه في دائرة في منتصف الملعب. هناك، يقفون يداً بيد، بقع العشب تلطخ لباسهم الضيق، والدموع تسيل فوق الشرائط السوداء أسفل جفونهم. الفتيان الذين سيصبحون قريبا شباناً، يندبون حداداً على خسارة نهاية الموسم، فتيان في مخاض الشباب يتفجعون على النهاية الأبدية لموسم كرة القدم. كان بإمكان «مود» أن يلجأ إلى موهبته في الفكاهة للتخفيف عنهم، لكنه هذه المرة يمتنع ويسلّم بمدى ثقل الموقف. نعم، سيستمر بعضهم باللعب في الكلية. آخرون سيذهبون في الواقع إلى الكلية طلاباً فقط. وبالتأكيد، سيتخلى البعض عن الجامعة تماماً، وينخرط في دوّامة العمل. ولكن ها هي الحقيقة، الحقيقة الكاملة، فليساعدني الرب: تحت هذا البريق الأخير لأضواء ليلة الجمعة، لا «مود» ولا أي من زملائه الآخرين يعلمون على وجه اليقين ما يخبئه لهم المستقبل.
ⓘ الجملة الأخيرة مجدداً، الجملة الأخيرة تشير إلى نقطة البداية، والشكل الدائري للقصة، فلا أحد يعلم من سيكون الآتي في سلسلة جرائم القتل العنصرية.
مَنْ هو ميتشل جاكسون؟
هو كاتب وروائي أمريكي، وحظيت روايته The Residue Years بإشادة نقدية واسعة. وقد فاز جاكسون عن روايته بجائزة وايتنغ Whiting Award. كما فازت بجائزة إرنست ج. جينز The Ernest J. Gaines Prize للتميز الأدبي وكانت من ضمن الروايات المرشحة لجائزة فلاهيرتي-دونان لأفضل أول عمل روائي The Center for Fiction Flaherty-Dunnan First Novel Prize، وجائزة بين - همنجواي PEN / Hemingway Award لأول عمل روائي، وجائزة هورستون / رايت Hurston / Wright Legacy Award. وتشمل تكريمات جاكسون زمالات ومنح وجوائز من كرييتيف كابيتال، ومركز كلمان لمكتبة نيويورك العامة، ومؤسسة لانان، ومؤسسة فورد، و«بين أمريكا»، وتيد، ومؤسسة نيويورك للفنون، ومركز الخيال.
وسُلِّطت الأضواء على كتابات جاكسون في نيويورك تايمز، وتايم، وإسكوير، وماري كلير، إضافة إلى ذلك في النيويوركر، وهاربرز، ونيويورك تايمز، والمجلة الباريسية، والجارديان، ومجلة واشنطن بوست، وهاربرز بازار، وأمكنة أخرى. نُشر كتابه غير الروائي Survival Math: Notes on an All-American Family في عام 2019 واُختير بوصفه أفضل كتاب للعام في NPR، تايم، المجلة الباريسية، ذا روت، كيركس ريفيوز، وبازفيد.
قدم جاكسون محاضرات وخطباً رئيسية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك مؤتمر تيد السنوي، ومهرجان أوبود (بالي) للكتاب والقراء، ومهرجان سيدني للكتاب، بالإضافة إلى مؤسسات مرموقة مثل جامعة ييل، وجامعة براون، وجامعة كورنيل، وجامعة كولومبيا.
لكونه سجيناً سابقاً، يعمل جاكسون أيضًا كمدافع عن العدالة الاجتماعية ويشارك في التوعية في السجون ومرافق الشباب في الولايات المتحدة وخارجها.
موقع «مود» لدى دخول المنزل، وموقع الجار الذي كان يراقبه واتصل مع الشرطة
12.5.21
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.
22.4.21
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.
20.4.21
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.