
أرض الك ُرد
في مخطوطات ألف عام
كيف دارت الدنيا بهم وتحوّلوا من «الحصن المنيع» إلى غير مرغوب فيهم
رشاد عبد القادر

كيف بدأ كل شيء؟
كيف بدأ كل شيء؟
هذا مشهد يوم عادي في حياة مدينة «بدليس» ولّده الذكاء الاصطناعي بناء على وصف أوليا جلبي، الرحالة والمستكشف العثماني، في كتابه «سياحت نامه» الذي تُرجم إلى العربية بعنوان «رحلة أوليا جلبي في كردستان». وقد زار «بدليس» نحو عام 1670، وقال على مدار 55 صفحة إنها ملاذ للثقافة والحضارة.. تتمتع بحدائق غنّاء ونوافير وحمامات عامة، وحاكمها المثقف والمتعدد المواهب يشبه أمير «عصر النهضة» العثماني، ويمتلك أعيانها أشياء فاخرة مثل فراء السمّور.
قبل رحلة أوليا جلبي، كان أمير المدينة؛ إدريس البدليسي الذي توفي عام 1520، قد تعاون مع السلطان سليم الأول، واستمال الزعماء الكُرد للوقوف إلى جانب العثمانيين، وطرد الصفويين من «ديار بكر» عام 1514. ومن شدة حماسه للعثمانيين، ألّف للسلطان بايزيد الثاني عام 1512، كتاب «هشتبهشت» أو «الجنان الثمانية» (وهو بالأصل تعبير فارسي من عهد الساسانيين عن نمط معماري في البناء)، يؤرخ تاريخ 8 حكام من آل عثمان إبان صعود الصفويين في الشرق وتوسُّع العثمانيين في البلقان، ويقلل في كتابه من أهمية الأصول التركية (غير المرغوب فيها حينه) للعثمانيين، ويعيد تصويرهم على أنهم ورثة الإمبراطورية الرومانية، وأتباع الإسكندر الأكبر الحقيقيون. ولتحقيق ذلك كله، استند إلى قصص توراتية وقرآنية وغيرها، لخلق أسطورة لآل عثمان لا تمت بصلة إلى أصل سلالتهم.

صورة متخيلة للسلطان سليم الأول والأمير إدريس البدليسي
البدليسي الذي عدّ مدينته «عاصمة حكومة كردستان»، بسكانها الكُرد والأرمن والعرب، لم يكن يعلم أنه خلال 400 سنة قادمة ستتحول «كردستانـ»ـه من «حصن منيع» لحماية العثمانيين على حد تعبير السلطان سليمان القانوني (سنأتي إلى تفصيل ذلك)، إلى غير مرغوب في ذكرها.
هذا التحوّل الذي انتبه له منذ بداياته الشاعر الكردي أحمد خاني عام 1694، عندما اختار أن يبدأ قصيدته ليس بمدح الحكّام كما كان سائداً، بل بالحديث عن «استعباد» الكرد من قبل العثمانيين والصفويين، و«احتلال» كردستان، ما يعد بحق مؤسس «القومية» الكردية.

صورة متخيلة للشاعر أحمد خاني
يقول في قصيدته:
Her mîrekî wan bi ezel Hatem
[كل سيّد فيهم كأنه حاتم في السخاء]
Her mêrekî wan bi rezmê Ristem
[كل رجل فيهم كأنه رستم في القتال]
Bi’fkir ji Erab heta ve Gurcan
[انظر، من العرب إلى الجورجيين]
Kurmancîye bûye şibhê bircan
[أصبح الكرد كالأبراج الشاهقة]
Ev Rûm û Ecem bi wan hesar in
[يحيطون بالروم (الترك) والعجم (الفرس)]
Kurmanc hemî li çar kenar in
[وينتشرون في الجهات الأربع]
Herdu terefan qebîlê Kurmanc
[الطرفان جعلا القبائل الكردية]
Bo tîrê qeza kirine amanc.
[أهدافاً لسهام القدر]
Goya ku li serḧedan kilîdin
[يُقال إنهم مفاتيح للحدود]
Her taʿife seddekin sedîdin
[كل قبيلة حصن حصين]
Ev qulzimê Rûm û Beḧrê Tacîk
[بحر الروم (الترك) وبحر الطاجيك (الفرس)]
Hindê ko dikin xirûc û teḧrîk
[كلما هاج وماج]
Kurmanc dibin bi xûn milettex
[يغرق الكرد في الدماء]
Van jêk vedikin misalê berzex
[يفصلون فيما بينهم (الترك والفرس) مثل البرزخ]
Ger dê hebûya me ittifaqek
[لو اتفقنا فيما بيننا]
Vêk ra bikira me inqiyadek
[لو اعتمدنا على بعضنا البعض]
Rûm û Ereb û Ecem temamî
[لأصبح الروم والعرب والعجم]
Hemiyan ji me ra dikir xulamî.
[جميعاً في خدمتنا]
مضت 330 سنة على قصيدة خاني، وتفرقت الطرق بالكُرد أكثر؛ لأنهم -كما تنبأ- لم يتفقوا فيما بينهم، حتى إن مفهوم «كردستان» الذي لا بُدّ منه، لم يتمكنوا من تأصيله. فالقيادات منشغلة بالمناصب أكثر من انشغالها بالمفاهيم.
في إهداء إلى «لورنزو دي ميديشي»، حاكم «فلورنسا»، يقول نيكولو مكيافيلي في افتتاحية كتابه «الأمير» إن السياسة تشبه الفن من نواحٍ عديدة. فمثلما ينزل رسّام الطبيعية إلى الوديان والسهول ليتمكن من رسم الجبال، ثم يصعد الجبال ليتمكن من رسم الوديان والسهول، كذلك الحاكم عليه أن يكون أميراً حتى يفهم طبيعة الشعب، وعليه أن يكون واحداً من الشعب حتى يفهم طبيعة الأمراء.
مكيافيلي الذي سيصبح كتابه مرجعاً للكثير من قادة العالم، ولا تخلو منه مناهج العلوم السياسية في الجامعات الغربية، طاردته سمعة سيئة ذائعة الصيت بأن «الغاية تبرر الوسيلة»، مع أن الرجل في الواقع تناول الأشخاص كما هم، وليس كما يجب أن يكونوا عليه. وقد عاش في الفترة ذاتها التي عاش فيها إدريس البدليسي في «الوديان والسهول» وعينه على منصب الإمارة، وكان لديه الخيار أن يصعد «الجبل»، ويصبح «أميراً» ليرى أبعد مما كان محكوماً به في زمانه. لكنه لم يفعل.
فما هي «كردستان» إذاً؟ ولماذا تغيّرت صورتها على مرّ التاريخ في الأدبيات التركية؟ وكيف انتقلت جغرافيتها من مساحة شاسعة، إلى مطالبات محدودة هنا وهناك؟ كيف نشأ مفهوم «كردستان»، وكيف تحوّل عبر الزمن في المخيال التركي، ومخيال الشعوب المحيطة بها؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه بالاستناد(1) إلى المخطوطات وما كتبه المتخصص بالشأن الكردي في العهد العثماني متين أتماجا، البروفيسور المساعد في كلية أنقرة للعلوم الاجتماعية، وكثير من المصادر الأخرى تُذكر في حينها.
كيف بدأ كل شيء؟

صورة متخيلة للكرد في القرن الحادي عشر

صورة متخيلة لمعركة بين السلاجقة والعجم في القرن الحادي عشر
كانت «كردستان»، على مرّ القرون، «مفهوماً» أكثر من كونها بقعة جغرافية واضحة الحدود. فـ«كردستان» شأنها شأن أي «جغرافيا سياسية»، بناءٌ اجتماعي وتاريخي؛ حدودها الجغرافية، ومعالمها الحضرية ومراكزها المدنية، وحتى سكانها، لم تكن ثابتة، إنما تتغير باستمرار، بحسب موازين القوى، وسلطة الحكام.
لكن قبل الدخول إلى الجغرافيا السياسية للكرد في التاريخ، نحتاج بداية أن نفهم كيف كانت تنظر الإمبراطورية العثمانية إلى نفسها وإلى حدودها، وهي التي كانت تجاور الكرد وتبسط عليهم سيطرتها لقرون طويلة.
العثمانيون الروم والفرس العجم
رسم العثمانيون هويتهم بناء على علاقاتهم مع الإيرانيين (العجم) من جهة والأوروبيين (الفرنجة) من جهة أخرى. وقد تبنوا التصور الروماني الذي ورثوه عن الإمبراطورية البيزنطية. ووسّع العثمانيون هذا المفهوم ليُدرجوا أنفسهم داخله على أنهم «روم» Rums أو «رومان» Romans، خاصة بالمقارنة مع صور الإيرانيين العجم وتصويرهم في الأدب والسياسة والجغرافيا، بحسب ما يشرحه(2) المؤرخ التركي جمال كافادار، بروفيسور الدراسات التركية في قسم التاريخ بجامعة هارفارد الأمريكية. إبّان فترات النزاع، كان يُستخدم جنس «الروم» و«العجم» معًا، وفي مقابلة ثنائية، غالبًا في الشعر، وكذلك في النصوص الدينية والسياسية. ومن ثم، تشكّل في الذهنية العثمانية المبكرة، عالمين منفصلين، لكنهما متجاوران لا من الناحية الجغرافية فحسب، بل من الناحية الثقافية أيضًا. لم يكن هناك اتفاق حول الحدود الجغرافية الدقيقة لهذين العالمين. وتفاقم عدم الاتفاق هذا، بحسب ما يذهب إليه متين أتماجا(3)؛ بسبب الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن معظم الأراضي الواقعة بين العثمانيين (الروم) والصفويين (العجم) كانت مأهولة بالكرد في المقام الأول، بالإضافة إلى مجموعات عرقية ودينية أخرى.

متين أتماجا
وبسبب اختلاف الرؤية حول الحدود الجغرافية بين هاتين الدولتين وغموضها، أشار إليها العثمانيون والإيرانيون حرفياً باسم «سَرْحد» (وتعني الحدود ، أو الأراضي الحدودية)، وظلت هذه المنطقة «أراض مجهولة»، من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر. ومن ثم، كان تخيّل «كردستان» مبهمًا تاريخيًا؛ بسبب موقعها على حدود إمبراطوريتين قويتين؛ ولم يبدأ هذا الأمر بالتغير إلا في القرن التاسع عشر مع إعادة تعريف المكان والمعنى مع وصول الحداثة إلى المنطقة.

صورة متخيلة للكرد القرن الحادي عشر

صورة متخيلة لمعركة بين السلاجقة والعجم في القرن الحادي عشر

صورة متخيلة للسلطان السلجوقي أحمد سنجر

صورة متخيلة للطقوس الشامانية
%20inspired%20by%20a%20histor.webp)
صورة متخيلة لتيمورلنك

صورة متخيلة لابن فضل الله العمري
أراضي الكرد في العصور الوسطى
استخدمت المصادر العربية في القرون الوسطى من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر، ثلاثة تصنيفات لأسماء المواقع الجغرافية، أو أسماء الأراضي التي سكنها الكرد. أحدها يشير إليها باسم «بلاد الأكراد»، حيث لم تكن هناك حدود دقيقة أو تجانس عرقي ضمني لها، باستثناء بعض العلماء مثل عماد الدين الأصبهاني، الذي أشار على وجه الدقة إلى الأراضي المحيطة بـ«حصن كيف» في كتابه «خريدة القصر وجريدة العصر» (المجلد الرابع). وكان التصنيف الثاني هو «زوزان الأكراد» (وتعني مراعي الكرد الصيفية)، التي تقع حول «جيزرة» (جزيرة ابن عمر)، ومن ثم، الجمع بين مجموعتين عرقيتين محليتين هما الكرد والأرمن، الذين ادعوا أن هذه المناطق هي أراضي أجدادهم. والثالثة كانت «جبال الأكراد»، حيث كانت الأرض تشير إلى المساحة الجبلية الواقعة بين «دينور» و«قزوين» و«سهرورد» و«همدان».
استُخدم اسم «كردستان» لأول مرة نحو عام 1153
عندما قام سنجر، زعيم إمبراطورية سلاجقة الروم Sultanate of Rum (التي سبقت الإمبراطورية العثمانية، وتأسست بعد معركة «ملاذ كرد» وهزيمة البيزنطيين عام 1071)، بتحويل الأراضي(4) المحيطة بـ«دينور» و«همدان» و«كرمانشاه» و«سنندج» إلى مقاطعة «كردستان» الإدارية، التي تعني «أرض أو مقاطعة الكرد» بالفارسية. والسلاجقة هم من موجة هجرات القبائل التركية الأولى من وسط آسيا إلى أن وصلوا إلى بلاد فارس، واستقروا فيها على مدار مئات السنين. وتحوّلوا من معتقداتهم الشامانية(5) إلى الإسلام تدريجياً وببطء متأثرين بعمق بالثقافة واللغة الفارسيتين. وكانت إمبراطوريتهم متعددة الأعراق والأديان، وتمتعوا بتسامح ديني عميق، ما مهد لظهور الحركات الصوفية في الأناضول، التي ركزت حينها على الإيمان بالله أكثر من ممارسة الإسلام كدين وشريعة. مع تقدم الكرد غربًا وشمالًا، توسعت المنطقة التي تشير إلى كردستان، وأصبحت تشمل الأراضي المحيطة ببحيرة «وان». وإلى جانب الكرد، كانت هناك مجموعات عرقية ودينية أخرى، كالأرمن والسريان والعرب، تعيش هي أيضاً على هذه الأراضي. وبدقة أكثر، كان الكرد يشكلون الأغلبية في «جبال الأكراد»، وليس في «زوزان الأكراد»، خلال هذه الفترة. فـ«زوزان الأكراد» الواقعة بين نهري دجلة والفرات، كانت سهوباً خالية إلى حد كبير. وقد استخدمها الرعاة من قبائل كردية أو مسيحية أو أيزيدية موسمياً لعدة قرون، وقد أطلق الجغرافيون العرب اسم «الأكراد» على هذه المناطق بدلاً من «الأرمن» أو «السريان» مثلاً، ربما لأسباب دينية. فالكرد مسلمون شافعيون نشطوا في الدفاع عن المنطقة أولاً ضد الأرمن المسيحيين ثم ضد الأتراك الأوغوز الشامانيين والمغول. ونتيجة لذلك، كشف العلماء العرب في اختيارهم لاسم المكان عن رغبتهم الأيديولوجية في تحويل هذه المنطقة إلى فضاء سياسي كردي إسلامي حصري.
ففي هذه الفترة، في بداية القرن الثالث عشر، تعززت الحركات الصوفية(6) في الأناضول بوصول الموجة الثانية من هجرة القبائل التركية التي سيتشكل منها الإمبراطورية العثمانية. وكانت هذه القبائل التركية الهاربة من المغول شامانية في معتقداتها، كما كانت الموجة الأولى من القبائل التركية قبل أن تغادر موطنها. غير أن الموجة الأولى من الأتراك السلاجقة كانت قد انتقلت بالتدريج إلى إيران، استقرت وأسلمت على يد الفرس عبر قرون من الزمن. وقد منحت هذه العملية البطيئة هؤلاء الأتراك متسعًا من الوقت للتكيف مع عقيدتهم الجديدة، والتحول من الروح القبلية الشامانية إلى أعراف الإسلام وقيمه الأكثر صرامة. على النقيض من ذلك، قفزت القبائل التركية التي جاءت في القرن الثالث عشر إلى الإسلام بين عشية وضحاها. ولم يكن أمامهم سوى بضع سنوات للتأقلم مع المعتقد الجديد. مع الصدمة الثقافية التي أعقبت ذلك، وجد أتراك الأناضول الشامانيين النسخة الصوفية الفضفاضة من الإسلام أقرب إلى ذوقهم، وتتسق مع جوانب من ثقافتهم الشامانية، مثل الرقص والموسيقى في العبادة والصلاة المختلطة بين الجنسين. ونتج من هذا التلاقح بين الإسلام الصوفي والشامانية ظهور نسخة محددة من الإسلام الريفي التركي. ولم يكن العرب السنة سعداء بذلك، ووجدوا(7) أن الكرد الشافعيين أقرب إليهم.
كردستان الكبرى
في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ورغم تزايد عدد المصادر التاريخية، إلا أن عدد الإشارات فيها إلى الكرد وكردستان تناقص. أحد الاستثناءات يعود إلى القرن الرابع عشر في كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العمري (المجلد الثالث، الباب الرابع: مملكة الجبال)، الذي يتحدث عن «أرض الأكراد» باعتبارها المنطقة الواقعة بين همدان (في إيران) وكيليكيا (أو قِيلِيقِيَة في تركيا) التي يسميها العمري «مملكة سيس» (قوزان حالياً). في القرن الخامس عشر، يأخذ استخدام اسم «كردستان» معنى إداريًا مع تصاعد الصراع الإقليمي. على سبيل المثال، يشير شرف الدين علي يزدي في كتابه «ظفرنامه» (أو فتحنامه) الذي يتناول حملات «تيمورلنك» العسكرية في الأناضول وإيران، إلى «كردستان» من الناحيتين الجغرافية والإدارية. من الناحية الجغرافية، يشير اسم «كردستان» إلى الموقع الجغرافي ذاته بين همدان وكيليكيا كما ورد في «مسالك الأبصار». وقد منح تيمورلنك هذه الأرض إدارياً لأمير معين باسم «مقاطعة كردستان»، التي كانت تغطي جغرافياً المناطق الأكثر شمالاً في «بدليس» و«موش» و«أخلاط» و«وان» في شرق الأناضول. في أواخر القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كانت جمشكزك بالقرب من وسط الأناضول تُعد أيضاً جزءاً من كردستان، كما أورده كتاب «شرفنامه» لشرف خان شمس الدين البدليسي.
امتداد أراضي كردستان بحسب ابن فضل الله العمري
خلال أوائل القرن السادس عشر، أشار إدريس البدليسي (توفي 1520)، الذي كان مهندس الصفقة السياسية بين الأمراء الكرد والإمبراطورية العثمانية، إلى «بدليس» على أنها «مركز حكومة كردستان». ومع ذلك كان السكان في هذا المركز الإداري غير مسلمين في الغالب وكثير منهم أرمن. ويقترح(8) البروفيسور في جامعة كاليفورنيا باقي تيزجان، المتخصص بالشأن العثماني، إلى أن هذه المناطق كانت تسمى «كردستان» بسبب توزيع هيكل السلطة المحلية(9)، وليس بسبب التركيبة السكانية؛ لأن الكرد كانوا يحكمون إدارياً وسياسياً على الأرمن. وبالتالي، كان الأمراء الكرد تسلموا عملياً السلطة السياسية في هذه المنطقة قبل وصول العثمانيين إليها، بدعم من السلاجقة والتيموريين ودولة آق قويونلو (الخرفان البيضاء) السُّنية وقره قويونلو (الخرفان السوداء) الشيعية المحلية. من المهم ملاحظة أن مفهوم «كردستان» كان موجوداً سياسياً وجغرافياً قبل أن تبسط الخلافة العثمانية نفوذها على كردستان في عهد سليمان القانوني (1520 -1566) على عكس ما تدعيه الرواية التاريخية القومية التركية في كثير من الأحيان.

صورة متخيلة للسلطان السلجوقي أحمد سنجر

صورة متخيلة لابن فضل الله العمري

باقي تيزجان
%20inspired%20by%20a%20histor.webp)
صورة متخيلة لتيمورلنك

الأراضي الكردية في المصادر العثمانية

صورة متخيلة للشاه اسماعيل الأول

صورة متخيلة لمدينة ماردين

صورة متخيلة لمدينة ديار بكر

صورة متخيلة لسليمان القانوني

صورة متخيلة للتناحر بين أمراء كرد
التنافس العثماني-الصفوي في كردستان
مع وصول العثمانيين إلى منطقة «كردستان»، نشب نزاع متداخل مع الصفويين الإيرانيين، حيث تنافست كلتا الإمبراطوريتين لقرون على السلطة في المنطقة التي أصبحت فيما بعد الحدود بين الدولتين. وقد تعاون، كما ذكرنا سابقاً، الأمير الكردي إدريس البدليسي مع السلطان العثماني سليم الأول (1508 - 1520) وطور استراتيجيات محلية لعرقلة صعود وتوسع الحاكم الصفوي الإيراني إسماعيل الأول (1501 - 1524). وقبل الشروع في حملة عسكرية ضد الصفويين، أوعز سليم الأول إلى البدليسي باستمالة الأمراء والبكوات الكرد المحليين، وضمهم إلى المعسكر العثماني. ويبدو أن سليم استند في قراره إلى معرفة مفصلة بالأراضي الكردية؛ فعلى مدى سنوات، كان عملاء السلطان الذين يعيشون في الحدود الشرقية للإمبراطورية وكردستان، أو يسافرون عبرها، ينقلون إلى إسطنبول المعلومات الاستخباراتية المحلية التي يجمعونها، ويفصّل في ذلك الباحث المتخصص في الدراسات الإيرانية مصطفى دهقان، والباحث التركي فورال كنج في دراسة(10) نُشرت عام 2018. وتماشياً مع المعلومات الاستخبارية التي جُمِعت، وضع سليم ثقته بإدريس البدليسي، وضم كثير من القبائل الكردية إلى جيشه في هذه العملية.
تفاوت السياسة العثمانية
ومع أن المصادر العثمانية تقدم معلومات مفصلة عن هذه القبائل، إلا أن المصادر الصفوية(11) لا تذكرها إلا باقتضاب، وتشير إليها جميعاً باسم «الكرد». وبالإضافة إلى ذلك، كان الإيرانيون يصورون(12) الكرد في صورة نمطية على أنهم «أشرار الطباع، عنيدون، كئيبون وغادرون». ويرجع الاختلاف بين نهج السلالتين العثمانية والصفوية وتصورهما للكرد إلى الأهمية الاستراتيجية لكردستان بالنسبة إلى العثمانيين. فخلال القرن السادس عشر، عندما كان التهديد الصفوي في أوجه، حافظ العثمانيون على اهتمامهم بالمناطق الكردية، وجمعوا المعلومات المحلية. وحتى بعد دمج الإمارات الكردية في الإمبراطورية خلال القرن نفسه، استمر العثمانيون في تنويع سياستهم الإقليمية، وتغيير الحكم الإداري المحلي بناءً على خصائص(13) كل إمارة. فقد صنفوا مراكز الإقطاعات (عائلات eyalets) والبلدات الكردية مثل «ديار بكر» و«بدليس» و«وان» و«موش» و«ماردين» وما شابهها بالقرب من الحدود الشرقية إلى ضيعة عائلية (يورتلوك yurtluk) أو إقطاعية وراثية مستقلة (أوجاكليك ocaklık)، وحولوها إلى إقطاعات مع بعض الالتزامات الضريبية. وصنّف العثمانيون الإمارات الكردية القريبة من الأراضي الصفوية، مثل «هكاري» و«بهدينان» و«بابان» و«بوتان» و«سوران»، إلى إقطاعات محلية أي حكومات محلية تتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية دون التزامات مالية. كان هذا التقسيم الإداري العثماني(14) مهمًا للغاية من حيث كيفية تطور هاتين المنطقتين من كردستان على نحو مختلف عبر الزمن. فالأراضي التي كان يملكها الكرد أصلاً حُوّلت إلى نظام «تيمار» (أي أرض ممنوحة من السلطان)، وأُدرجت حرفياً في نظام الأراضي العثماني التقليدي، ولذلك أصبحت مدمجة في الجسم السياسي العثماني. في المقابل، ظلت الأراضي الكردية(15) التي تحولت إلى «حكومة» (hükûmet) مستقلة بذاتها، وبعيدة عن نظام الأراضي العثمانية، وكانت أشبه بـ«مناطق عازلة»؛ كما كانت هذه الأراضي أكثر عرضة للخطر من الناحية الاستراتيجية، وكثيراً ما كانت تتنقل(16) بين أيدي العثمانيين والصفويين إما بالقوة، وإما بالإرادة.
وبعد انتصار العثمانيين السُّنة في عدة حروب ضد الصفويين الشيعة ودولة المماليك في القرن السادس عشر، التي رافقتها مذابح كثيرة، شعر العثمانيون بأنهم أقوى وأكثر أمناً من الناحية العسكرية، وتباطؤ التوسع، حتى بات حكمهم يمتاز بسيادة «القانون» أكثر من ممارسة العنف ضد رعاياهم، مما دفعهم إلى أن يصبحوا أكثر تساهلاً تجاه الأمراء الكرد أيضاً. وفي عام 1521، أي بعد عام من اعتلاء السلطان العثماني سليمان القانوني العرش، صُنِّفت ثمان وعشرون وحدة إدارية في كردستان على أنها مجتمعات كردية Cema’at-i Kürdân (جماعة كردان)، ومنحهم الحق(17) في حكم أراضيهم. حتى إن السلطان حَمَدَ الله الذي جعل كردستان بين السلالتين المسلمتين العثمانية والصفوية، قائلاً: «سخّر الله كردستان لحماية مملكتي الإمبراطورية مثل حاجز منيع وحصن من حديد ضد فتنة شياطين يأجوج فارس».
إلا أن الوضع لم يكن مستقراً دائماً
فالوحدات الإدارية الكردية في الدولة العثمانية لم تبقَ على حالها، بل كانت تتغير مع وصول كل سلطان عثماني جديد إلى الحكم. ومع أن السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم كانوا في الغالب يصادقون على أحكام أسلافهم، إلا أن الفرمان (المرسوم السلطاني) الذي يجدد وضع الإمارات الكردية خضع لتغييرات محددة تتماشى حرفياً مع الحالة الراهنة لعلاقات العثمانيين السياسية مع الصفويين. كما أثرت السياسة الداخلية بين الأمراء الكرد أنفسهم على وضع الوحدات الإدارية العثمانية، خاصةً عندما تكون هناك صراعات على السلطة(18) بين الأسر الكردية الحاكمة. ففي أوائل القرن السابع عشر، على سبيل المثال، قدم المسؤول العثماني علي أفندي في أوائل القرن السابع عشر هيكلاً إدارياً مختلفاً بعض الشيء للإمارات الكردية، حيث وُضعت امتيازاتها تحت سيطرة إدارات المقاطعات. فقد أضاف المسؤولون العثمانيون ثمانية سناجق لبكوات كورد إلى مقاطعة ديار بكر، التي كانت تتألف من أحد عشر سنجقاً sancaks وخمس حكومات hükûmets، ولديها التزامات ضريبية.
ثم تحوّلت النظرة من «جماعة» إلى «أفراد»
المثير للاهتمام ملاحظة تحول النظرة الرسمية العثمانية للكرد. فقد كان يُنظر إليهم على أنهم جماعة cema’at في بداية إدماجهم في الجسم السياسي العثماني، إلا أن هذا التصور تغير بعد قرن تقريباً من كونه قائماً على أساس الجماعة إلى كونه قائماً على أساس البكوات أو الزعماء الكرد. وعندما لم يعد يُنظر إلى الكرد(19) في كردستان على أنهم مجتمع، أصبح من السهل استلحاقهم في الهيكل الإمبراطوري العثماني كرعايا كما يشرح متين أتماجا. ثم أن تحديد الكرد من خلال قادتهم وحدهم، جعل من السهل على العثمانيين في نهاية المطاف إبعادهم عن السلطة.

صورة متخيلة لمدينة ديار بكر

صورة متخيلة لسليمان القانوني

صورة متخيلة للتناحر بين أمراء كرد

صورة متخيلة لشرف خان البدليسي
تاريخ البدليسي
قبل نهاية القرن السادس عشر، قرر شرف خان شمس الدين البدليسي (توفي 1601)، أمير «بدليس» الكردي، أن يكتب باللغة الفارسية، وهي اللغة الأدبية التي كانت مستخدمة آنذاك في الأراضي الممتدة من الهند إلى الأناضول، سرداً لتاريخ السلالات الكردية والأسر الحاكمة، وأطلق عليه اسم «شرفنامه». ونظراً لأن شرف خان كان يقصد أن يكون جمهوره من الحكام العثمانيين والكرد، فقد احتوت روايته على تحيز واضح للعثمانيين والسنة. ومن حيث حياته المهنية على أرض الواقع، فقد تأثرت على نحو كبير بالتنافس العثماني الصفوي، مثل حياة والده شمس الدين بيك (توفي 1576).
يتتبع «شرفنامه» الأصول التاريخية للأمراء الكرد إلى كثير من السلالات الحاكمة في المنطقة، بما في ذلك الأيوبيين والعباسيين والأمويين، وكذلك إلى حكام ما قبل الإسلام مثل الساسانيين والقائد المقدوني الإسكندر الأكبر. كما يناقش شرف خان في المقدمة كثير من الأساطير المتعلقة بالجذور الكردية. في إحدى الأساطير، يرجع الكرد إلى أولئك الذين هربوا من اضطهاد ملك إيراني يدعى «الضحاك»، ولجؤوا إلى الجبال. وفي أسطورة أخرى، ينحدر الكرد من مجموعة من الجن الخارقين الذين حولهم الله بعد ذلك إلى بشر. وتذكر أسطورة ثالثة أن الكرد انبثقوا من زواج بين إنسان وعملاق. ويتبع ذلك وصف لبعض الخصائص النموذجية للكرد. ويقول «إنهم شجعان وجريئون للغاية، لا يعرفون الخوف، لكنهم أيضًا كثيرو الجدل في تحديد من يكون قائدهم.. ثم أنهم بارعون في العلوم الإسلامية، لكنهم يفتقرون إلى الموهبة الأدبية في الخط والشعر.»
بالإضافة إلى مناقشته لأصول الكرد، قدم شرف خان أيضًا الموقع الجغرافي لكردستان. ووفقاً له، كانت حدود كردستان تبدأ من البصرة على الخليج «الفارسي»، وتمتد إلى «ملاطية» و«مرعش» في وسط الأناضول، وكانت محاطة ببلاد فارس، عراق العجم، أذربيجان وأرمينيا من الشمال، وبعراق العرب، ديار بكر، والموصل من الجنوب. وخلص إلى أنه لم يحاول أي ملك احتلال كردستان؛ بسبب طبيعة الكرد الشجاعة والمشاكسة وجغرافيتهم الجبلية. وبدلاً من ذلك، كان هؤلاء الحكام يتظاهرون رمزياً بأنهم سادة الكرد، ويعاملهم الكرد على أنهم سادة، ويرسلون إلى الحكام بعض «الهدايا» لإظهار ولائهم، خاصة في أثناء الحملات العسكرية.

صورة متخيلة لشرف خان البدليسي

الكرد عالقون بين الإمبراطوريتين

صورة متخيلة لقبائل عربية وتركمانية

صورة متخيلة لقافلة قبيلة الـ«مِلّان»

صورة متخيلة لـ«تمرد ماردين»

أوستن هنري لايارد
.jpeg)
جلادت بدرخان

إبراهيم باشا الملّي
الغموض يكتنف كردستان
مع أن شرف خان حدد حدود كردستان بدقة أكبر بكثير مما فعل الآخرون، إلا أن الأرض التي امتدت بين الموصل وحلب وباتجاه الشمال الغربي حتى ملاطية من جهة أخرى، ظلّ وضعها غامضاً. ويقترح(20) المؤرخ التركي جمال كافادار، إنها كانت «منطقة رمادية أو منطقة تنقّلت واختلطت فيها القبائل الكردية بحرية مع القبائل العربية والتركمانية في شمال بلاد ما بين النهرين». فالحدود بين الأراضي التركية والإيرانية والعربية كانت مائعة من الناحية العملية؛ لأن معظمها لم يكن خاضعاً لسيطرة الكرد فحسب، بل كانت تضم العرب والتركمان بالإضافة إلى مجموعات غير مسلمة مثل الأرمن والآشوريين واليهود والكلدان.

جمال كافدار
تمرد ماردين 1832
وتحولت التوترات إلى تمرد مفتوح في عام 1832. حشد زعماء «المِلٌان» قواتهم، وتمكنوا من السيطرة على ماردين وطرد ممثلي الحكومة المركزية. ورداً على ذلك، أرسلت الإمبراطورية العثمانية قوات من بغداد وإسطنبول لقمع التمرد.
ضربت القوات العثمانية الحصار على ماردين، وواجهت مقاومة شديدة من المتمردين الذين كانوا متحصنين جيداً، وعلى دراية بتضاريس المنطقة. وجرت معارك ضارية، تكبد فيها الطرفان خسائر كبيرة في الأرواح. إلا أن الموارد العسكرية المتفوقة للقوات العثمانية أدّت دورها في نهاية المطاف، وأدى الحصار الذي استمر شهوراً إلى إنهاك المدافعين، ثم سحق التمرد في وقت لاحق من عام 1832. أُسر قادة التمرد، بمن فيهم حاجي عزت بك وعلي بك، أو قُتلوا. ثم شرعت السلطات العثمانية بعد ذلك في فرض سيطرة أكثر صرامة على المنطقة، حيث عيّنت إداريين موالين لها ونزع سلاح السكان المحليين لمنع حدوث تمردات في المستقبل.
أدى التمرد بعواقبه إلى تحول كبير في حكم ماردين. فقد قُلِّصت سلطة زعماء القبائل المحلية، وأعيد تنظيم إدارة المنطقة لضمان سيطرة أكبر للحكومة المركزية. كما كان هذا التمرد بمكانة درس للإمبراطورية العثمانية في إدارة التوازن الدقيق بين السلطة المركزية والحكم الذاتي المحلي.
يُعدّ «تمرد ماردين» مثالاً على التحديات الأوسع نطاقاً التي واجهتها المجتمعات المحلية خلال فترة الإصلاح والمركزية المكثفة في الإمبراطورية العثمانية في عهد السلطان محمود الثاني، حيث تصادمت الهويات المحلية والاستقلالية التاريخية في كثير من الأحيان مع رؤى الدولة المركزية. وقد تصاعدت وتيرة الإصلاحات التي باتت تُعرف الآن بـ«فرمان الكلخانة»، بضغوط من القوى الأوروبية على الدولة العثمانية بعد مساعدتها على إخراج إبراهيم محمد علي باشا، من سوريا عام 1841.
عملياً خلال السنوات التسع التي فرض فيها إبراهيم محمد علي باشا سلطته على سوريا، كان قد فكك هو أيضا الميليشيات المحلية، ونزع عنها السلاح، ما أدى إلى تضرر كبير في سلطة الـ«آغوات» الكرد، بعدما تضررت سابقاً بالإصلاحات العثمانية، فذابت سلطتهم، وانهارت مجتمعاتهم، ما عدا فئة قليلة تمكنت من التفاوض على الإصلاح والانتقال إلى مركزية الدولة بالتدريج.
والجانب الأبرز لهذه الإصلاحات، الذي علق في أذهان المسلمين حينها، هو منح غير المسلمين (من أهل الذمة) المساواة الرسمية مع رعايا الإمبراطورية العثمانية المسلمين أمام القانون.
في عام 1848، سافر الرحالة والمستكشف البريطاني أوستن هنري لايارد عبر كردستان، ويذكر في كتابه «اكتشافات بين أطلال نينوى وبابل»، أنه التقى زعيم كردي في منطقة «موش»:
فقال، وهو يداعب لحيته ناصعة البياض تأكيداً على كلامه، أنه تجاوز التسعين من عمره، ولم ير أوروبياً قط قبل ذلك. وكان نصف أعمى يرمقني من خلال عينيه المغشيتين إلى أن أشبع فضوله تماماً، ثم تحدث بازدراء عن الفرنجة، وانتقد الـ«تنظيمات» التي قال عنها إنها دمرت روح المسلمين جميعاً، وحولت المؤمنين الحقيقيين إلى كفار، وجلبت الخراب على قبيلته، وهذا يعني بالتأكيد أنهم لم يعودوا قادرين على نهب جيرانهم [غير المسلمين].
كانت هذه الآراء منتشرة على نطاق واسع في تلك الفترة. وتقدم، بصرف النظر عن الاعتبارات الإنسانية، تفسيراً لما حدث فيما بعد من تدمير للمجتمعات المسيحية التي كانت جزءاً مهماً من اقتصاد المنطقة، ومن ثم تفككه.
ووصلت التوترات ذروتها في بلاد الشام في «أحداث دمشق» عام 1860، حيث قتل فيها المسلمون آلاف المسيحيين، وسيتشكل الشرق الأوسط، فيما بعد، على أساس هذه الأحداث، ويرصد ذلك المؤرخ الأمريكي يوجين روغن في كتابه الصادر حديثاً «The Damascus Events».
«المِلّان»، والبدرخانيون، وحاجو آغا.. تشكيل هوية الكرد في سوريا
لم تنته قصة «المِلّان» بعد «تمرد ماردين». ففي نسيج تاريخ منطقة «الجزيرة» في سوريا، قليلة هي السرديات المعقدة والمشحونة بالصراعات من أجل الهوية والوجود مثل سردية(32) قبيلة «المِلّان» والبدرخانيين؛ السلالتين الكرديتين التي تقدم مساراتهما المتباينة ومناوراتهما السياسية خلال فترتي أفول العثمانيين والانتداب الفرنسي، لمحة عن النسيج المعقد للسياسة الإقليمية في بدايات القرن العشرين.
وجدت عائلة بدرخان، المنحدرة من إمارة «بوتان» القوية، نفسها منفية إلى سوريا بعد مقاومتها للإصلاحات العثمانية. وبحلول أوائل القرن العشرين، أصبحوا شخصيات مؤثرة في الحركات الفكرية والثقافية الكردية. وقد لعبت شخصيات بارزة مثل جلادت بدرخان وكاميران بدرخان دورًا أساسيًا في نشر الدوريات الأدبية والثقافية الكردية مثل «هوار» و«روناهي»، التي هدفت إلى توحيد اللهجة الكرمانجية وتعزيز التراث الكردي.
في عام 1932، دفعت الرواية القومية للتاريخ التركي، التي أكدت التفوق العرقي التركي، البدرخانيين إلى إبراز الجذور الآرية للكرد، ومن ثم فصلهم عن الهوية التركية. ومع ذلك، ظلت هذه الحركة الفكرية غير سياسية إلى حد كبير في ظل قيود الانتداب الفرنسي، وركزت بدلاً من ذلك على النهضة الثقافية. انتقل كاميران بدرخان إلى باريس بعد استقلال سوريا عام 1946، وواصل مساعيه الأكاديمية في معهد INALCO.
وفي هذه الفترة برزت شخصية أخرى، حاجو آغا، من عشيرة هفيركا، ودعم منظمة «خويبون» القومية الكردية. وشارك في الأنشطة المناهضة لفرنسا. مع ذلك، وبحلول أواخر العشرينيات من القرن العشرين، تحول تركيزه(33) نحو المساعي الثقافية وإدارة ممتلكاته الواسعة من الأراضي في منطقة الجزيرة. وقد عكست إقامته لعلاقات استراتيجية مع الرعاة الفرنسيين انخراطه الثقافي مع مشروع البدرخانيين الثقافي، لكنه تميز بمشاركة أكثر مباشرة في الحكم المحلي وإدارة الأراضي. كان هذا التحول مؤشراً على تكيف حاجو آغا مع الواقع السياسي الجديد في ظل الحكم الفرنسي، حيث وازن بين طموحاته الثقافية والقومية والحكم البراغماتي.
على النقيض من تركيز البدرخانيين الثقافي، جسدت قبيلة «المِلّان» السلطة القبلية والمناورة السياسية. كان لـ«المِلّان»، كما ذُكر سابقاً، تاريخ طويل من التفاعل مع السلطات العثمانية. وبحلول القرن الثامن عشر، وتحت قيادة شخصيات مثل تيمور باشا وإبراهيم باشا، عززت القبيلة مكانتها في شمال شرق سوريا. وعلى الرغم من المحاولات العثمانية المتكررة لإخضاعها، إلا أن تحالفات «المِلّان» الاستراتيجية، بما في ذلك مع ولاية بغداد المملوكية، ضمنت بقاءها وبروزها.
أظهر «المِلّان» نهجاً عملياً. فخلال الانتداب الفرنسي الذي بدأ في عام 1920 في سوريا، سعوا إلى الحفاظ على نفوذهم من خلال التكيف مع الحكام الجدد والاندماج في الدولة السورية الناشئة. وخلافاً لتطلعات البدرخانيين القومية الأوسع نطاقاً، ركّز «المِلّان» على ديناميكيات السلطة المحلية مستفيدين من نفوذهم القبلي الكبير في المنطقة، وتعاونوا في كثير من الأحيان مع السلطات الفرنسية.
يعكس التباين بين البدرخانيين و«المِلّان» موضوعات أوسع في التاريخ الكردي: التوتر بين الجهود الفكرية الثقافية والسياسة القبلية البراغماتية. فقد أرسى تركيز البدرخانيين على الإحياء الثقافي والتعليم الأساس لهوية كردية حديثة، وأثروا في الكرد خارج سوريا. بينما ضمنت مناورات «المِلآن» السياسية الماهرة تمثيل الكرد ونفوذهم في المشهد السياسي المتغير في سوريا حينئذ، وتأصيل وجودهم فيها.

صورة متخيلة لقبائل عربية وتركمانية

صورة متخيلة لـ«تمرد ماردين»

أوستن هنري لايارد
.jpeg)
جلادت بدرخان

إبراهيم باشا الملّي
وستتحول هذه المنطقة فيما بعد، إلى منطقة توتر رئيسة بين الكرد والعرب.
كانت منطقة «الجزيرة» شمال شرق سوريا، سهولاً خالية إلى حد كبير وامتداداً طبيعي لـ«ماردين» على سلسلة جبال «طور عابدين». وقد استخدمها الرعاة الكرد من قبائل مختلفة على نحو موسمي لعدة قرون(21)، لا سيما قبائل اتحاد الـ«مِلّان» Millan (وسنأخذها هنا كحالة دراسية)، التي كانت تقيم فيها شتاءً، ثم تتجه إلى سفوح سلسلة جبال الأناضول للرعي صيفاً. كان لاتحاد «المِلّان» تأثير كبير(22) منذ القرن الحادي العشر، وكانت تسيطر على منطقة واسعة تمتد من «الرقة» في الجنوب إلى «أرضروم» في الشمال، ومن «يوزغات» في الغرب إلى «أرومية» في إيران في الشرق. وكان يتناوب على قيادتها، إبان عهد دولة «آق قويونلو» (الخرفان البيضاء)، إحدى العشائر السبع الأساسية، وكانوا يلقبون باسم «أصحاب الأختام السبعة»(23). وابتداء من عام 1520، سيطرت عائلة «خضركان» وحدها على إدارة الاتحاد، ما أدى إلى نشوب خلافات داخلية فيما بين العائلات انتهت بانشقاق الاتحاد. القسم الذي بقي في ماردين وسُمّي «الملان الكبير» Millanên Mezin، و«الملان الصغير» Millanên Biçûk، الذين اتخذوا من «ويرانشهر» مقراً لهم في الشتاء، واتجهوا إلى «أرومية» في إيران صيفاً. وتوثق(24) المصادر العثمانية ذكر «المِلّان» منذ عام 1518.
وعندما طرد العثمانيون الصفويين من «ديار بكر» عام 1514 بمساعدة وبتخطيط من الأمير إدريس البدليسي، كان «المِلّان» يسيطرون على السفوح الجنوبية لجبال «كاراجا داغ» Karaca Dağ البركانية الغنية بالينابيع التي ترفد نهري الخابور والفرات. وكثيرا ما كانوا يتبعون لحكومة voyvodalık «ماردين» ووادي الخابور التي كانت جزءاً من ولاية «ديار بكر»(25). وقدّرت الوثائق العثمانية(26) في القرن السادس عشر، أن ثلاثة أرباع سكان جبال ماردين من «المِلّان». وظلت علاقتهم بالجبال البركانية مستمرة حتى عندما استقروا في مراعيهم بشمال شرق سوريا؛ فقد كان جبل «كوكب» البركاني قرب مدينة الحسكة يُعرف في المنطقة سابقاً بـ Girê Millan (هضبة المِلّان).
ابتداءً من أواخر القرن السابع عشر 1691 - 1699، خضع «المِلّان» لمشروع الاستيطان القبلي الذي بدأته الدولة العثمانية، بدعوى أن الارتحال القبلي المستمر يسبب الأضرار لحقول وممتلكات السكان المستقرين. كمثال على ذلك، ثمة شكوى مسجلة(27) عام 1679 في أرشيف مدينة «يوزغات» عن أضرار وشكاوى؛ بسبب مرور قافلة قبيلة «المِلّان». ثم إن حوادث النهب وقطع الطرق دفعت السلطات العثمانية إلى تطبيق التوطين، وأُجبرت(28) قبيلة «المِلّان» بعد عودتهم من «أرومية» عام 1711، على الاستقرار أولاً حول «ديار بكر» ثم في «إيالة الرقة» eyalet of Raqqa. إلا أنهم لم يستقروا تماماً، فكثيراً ما غادروا الأراضي المخصصة لهم، واتجهوا شمالاً وغرباً وشرقاً بحثاً عن الماء والكلأ.
ومنذ القرن الثامن عشر، كانت قبيلة «المِلّان» قوية بما فيه الكفاية لرفض دفع الجزية والقتال ضد الباب العالي، لكن شوكتها بدأت تضعف (1830-1840)، بسبب الصراعات الداخلية والصراع مع القبائل العربية القادمة حديثاً من شبه الجزيرة العربية، كقبيلة الشمر التي هبت لنجدة شريف مكة والحجاز غالب بن مساعد في حروبه ضد الوهابيين عام 1787، لكنها تكبدت خسائر فادحة، فهربت(29) نحو العراق ثم تابع قسم منهم ترحالهم إلى منطقة الجزيرة. وتزامنت(30) مع قدوم الشمر، هجرات «العنزة»، و«الجبور»، و«طي» في الفترة ذاتها.

صورة متخيلة لقافلة قبيلة الـ«مِلّان»
لكن الحادث الأهم، الذي ضعضع القبيلة، وأضعفها، كان «تمرد ماردين» في عام 1832، بسبب الاضطرابات بين السكان المحليين، ولا سيما قبيلة «المِلّان»، نتيجة عدم الرضا عن «الإصلاحات» التي أجرتها الدولة العثمانية، ووصلت إلى ذروتها فيما تُعرف بالـ«تنظيمات».
في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع، شهدت الإمبراطورية العثمانية ضعفاً متزايداً؛ ومع اعتلاء السلطان محمود الثاني العرش (1808 - 1839) بعد انقلاب أطاح فيه بأخيه غير الشقيق مصطفى الرابع، تنازلت الدولة العثمانية عن منطقة «بيسارابيا» للإمبراطورية الروسية مع نهاية الحرب معها (1806 - 1812)، وكانت اليونان قد بدأت منذ عام 1821 بخوض حرب الاستقلال، ثم خسر العثمانيون المزيد من الأراضي في الحرب الروسية التركية الثانية 1828 – 1829، واحتلت فرنسا «الجزائر» العثمانية بداية من عام 1830.
كل ذلك دفع السلطان محمود الثاني إلى استئناف الإصلاحات الخجولة التي توقفت بعد أن بدأها أسلافه، وأجرى تغييرات إدارية وعسكرية ومالية واسعة النطاق، حلّ بموجبها فيلق الإنكشارية المحافظ الذي كان عقبة رئيسة أمامه، وأنشئ جيشاً عثمانياً حديثاً، وقلّص صلاحيات الزعماء المحليين ودمج ميليشياتهم في الجيش المركزي، وأجرى تغييرات شاملة في الإجراءات الإدارية البيروقراطية لإعادة تأسيس السلطة الملكية وزيادة الكفاءة؛ حتى عُرف بـ«بطرس تركيا الأكبر».
قُوبِلت هذه التغييرات بمقاومة في أجزاء مختلفة من أرجاء الإمبراطورية، بما في ذلك المناطق التي كانت تتمتع تاريخياً بالحكم الذاتي مثل «ماردين». وعَدّ زعماء المدينة الإصلاحات تهديداً مباشراً لسلطتهم، وعلى ما يتمتعون به من حكم ذاتي وامتيازات تقليدية.
ويوثق أرجان غموش، البروفيسور المساعد في قسم التاريخ بجامعة «ماردين»، أن «تمرد ماردين»(31) قاده بشكل رئيسي زعماء قبيلة «المِلّان»، وأبرزهم شخصيات مثل حاجي عزت بك وعلي بك. كان لهؤلاء الزعماء نفوذ كبير، وتحت إمرتهم ميليشيات كبيرة قادرة على تحدي السلطات المركزية.

أرجان غموش

صورة متخيلة لتوقيع معاهدة أرضروم

صورة متخيلة لكاتب جلبي

صورة متخيلة لأوليا جلبي

صورة متخيلة لمصطفى نعيمة
معاهدة أرضروم الثانية
مع أن كتابه كان تفصيلياً لدى نشره في منتصف القرن السابع عشر، إلا أن كاتب جلبي لا يسمي كردستان على أي من خرائطه في نسخها الأصلية، بل يدرج المنطقة التي يسكنها الكرد والأرمن على أنها «منطقة مجهولة»، ربما باعتبارها «منطقة محرمة». مع ذلك، فإن السرد التفصيلي المستفيض للمنطقة في نصه يكشف أنه لا يتعمد إخفاء الموقع الجغرافي لكردستان. فبعد وصف كثير من المناطق المأهولة بالكرد مثل «وان» و«عادلجواز» و«بدليس» و«موش» و«أرضروم» و«هكاري» و«الموصل» و«سعرد» (سيرت) و«ديار بكر» وبعض الأماكن الأخرى في شرق الإمبراطورية العثمانية، يتناول كاتب جلبي في هذا النص مناقشة مستفيضة عن كردستان. ويصف أولاً بإيجاز أصول الكرد لينقل التكهنات وقتها ما إذا كان الكرد عرباً بالفعل. ثم يوسّع حدود الأراضي التي يقطنها الكرد إلى «مرعش» و«ملاطية»، ويخلص إلى أن الأراضي الكردية كانت تتألف من ثماني عشرة ولاية عثمانية. في رواية كاتب جلبي، مدينة «جيزرة» هي قلب كردستان؛ ويعدها أهم مدينة كردية.
كردستان لدى أوليا جلبي
في الفترة ذاتها تقريبًا، التي أكمل فيها كاتب جلبي مؤلفه المهم «جيهانوما»، سافر أيضًا أوليا جلبي (توفي 1684) عبر «ديار بكر» و«ماردين» و«بدليس» و«وان» وبعض المدن القريبة التي أشار إليها باختصار باسم «كردستان». وبالمقارنة مع كاتب جلبي، فإن أوليا جلبي أكثر تحديداً في تحديد الأراضي الكردية. فهو يشير إلى «ديار بكر» وجميع الأراضي المحيطة بها مباشرةً باسم «مقاطعة ديار بكر الكردية» («eyalet-i Diyarbekr-i Kürdistan») في كتابه «سياحت نامه» وقد تُرجم إلى العربية بعنوان «رحلة أوليا جلبي في كوردستان». ويستخدم جلبي أيضاً عبارة «مقاطعة كردستان» («إيالة كردستان») عندما يشير تحديداً إلى «ديار بكر»؛ ثم يستخدم عبارة «أرض كردستان» («ديار كردستان») عندما يشير إلى منطقة أوسع بكثير تمتد حتى شمال العراق وشمال غرب إيران. وهو يشمل مدن «وان» (Kürdistan-ı Van) و«سوران» (شرق وشمال أربيل) و«بدليس» في كردستان أيضاً. وفي هذا المنعطف أيضًا يميّز منطقة كردستان ضمن الأراضي الصفوية باسم «كردستان إيران» (Kürdistan-ı Acemistan).
سُمّيت كردستان وأرض الصخور [سنجستان]، وهي أرض عظيمة تضم سبعين مستوطنة مختلفة. وتبدأ إحدى زواياها من الجهة الشمالية من أرضروم ووان إلى أرض هكاري وجيزرة والعمادية والموصل وشهرزور [منطقة كركوك] وهرير وأردلان [منطقة سنندج] وبغداد ودرنه [قلعة] ودرتنك Derteng والبصرة. وتقع هذه المرتفعات بين العراق والأناضول، ويسكنها ستة آلاف قبيلة وعشيرة كردية، حيث كان من السهل على أمة العجم الاستيلاء على الأراضي العثمانية [ديار الروم] لو لم يصبحوا [الأكراد] معقلاً حصيناً.
يقسم جلبي كردستان أيضًا إلى مكوناتها الريفية والحضرية. فبينما يصوّر كردستان الريفية على أنها «أرض الصخور»، يصوّر «بدليس» و«ديار بكر» على أنها «ملاذات للثقافة والحضارة على النقيض من محيطها». وفقًا لجلبي، تتمتع «بدليس» بحدائق غنّاء ونوافير وحمامات عامة. وحاكمها المثقف والمتعدد المواهب يشبه أمير «عصر النهضة» العثماني، ويمتلك أعيانها سلعاً فاخرة مثل فراء السمّور.
كردستان في «تاريخ نعيمة»
بعد نصف قرن تقريبًا من كتابة جلبي لرحلته، لا يزال مصطفى نعيمة (توفي 1716)، وهو مؤرخ البلاط العثماني، يشير إلى الأراضي الكردية على هذا النحو في كتابه «تاريخ نعيمة». في إحدى الروايات، يذكر نعيمة شيخًا نقشبنديًا حظي باستقبال حسن في جميع «مناطق كردستان [ممالك كردستان]،» التي حددها بأنها تضم «أرضروم» و«الموصل» و«الروها» (أورفا) و«وان». وقد ذكر «ديار بكر» على نحو منفصل، بسبب اختلاف هويتها الإدارية؛ حيث كان يدير ثمانية من أصل تسعة عشر سنجقًا حاكم كردي يقيم فيها. ويذكر كثير من هذه السناجق على أنها كانت خاضعة للضرائب. لا يناقش نعيمة الكرد الذين يقطنون المنطقة المشار إليها باسم كردستان فحسب، بل يصف أيضاً بتفصيل كبير أولئك الكرد الذين يعيشون خارج كردستان، وتحديداً في «سيواس» و«جوروم» و«يوزغات». على سبيل المثال، يسجل أنه في إحدى المرات في «سيواس» اتحد كثير من الأتراك والكرد والتركمان والمجموعات العرقية الأخرى التي تجمعت معًا من بين الجنود العثمانيين في مسيرة احتجاج ضد قائد المنطقة.
والحال أن الغموض الذي أحاط بحدود وتخوم أراضي الكرد، استمر حتى منتصف القرن التاسع، ولكن ثمة حدث يستحق تناوله:

صورة متخيلة لتوقيع معاهدة أرضروم
في عام 1847 مع معاهدة أرضروم الثانية، اجتمعت الإمبراطوريتان العثمانية والإيرانية (القاجارية) وكذلك المملكة المتحدة وروسيا في محاولة للتفاوض بشأن النزاعات الحدودية بين الإمبراطوريتين؛ وقد فعلوا ذلك للتوصل إلى تسوية نهائية(33) وملزمة لنزاعهم الإقليمي ولترسيم المنطقة الحدودية في خط قابل للتعيين. ولإثبات مطالبهم في بعض المناطق، خاصةً مدن «المحمّرة» (خرمشهر) و«زوهاب» (سربل ذهاب) و«سليماني» (السليمانية)، لجأ المسؤولون الإيرانيون والأتراك إلى الفرمانات والخرائط وروايات الرحلات القديمة، مثل كتاب كاتب جلبي (توفي 1657) الذي يعود إلى القرن السابع عشر بعنوان «جيهانوما» (مرآة العالم). بما أن رواية كاتب جلبي تحمل ختم السلطان العثماني، فقد استخدمها المندوبون الإيرانيون كدليل للمطالبة بالسيادة على مناطق «أهيسكا» (مسخيتي الجورجية) و«وان» و«قارص» و«بايزيد»، وطالبوا أيضاً بالاعتراف بحقوقهم على مقاطعة «سليماني» (السليمانية). ومن المثير للاهتمام أن كتاب «جيهانوما» لكاتب جلبي لم يستخدمه العثمانيون والإيرانيون كشهادة على ادعاءاتهم في الأراضي فحسب، بل استخدمه العلماء الأوروبيون على نطاق واسع.

صورة متخيلة لكاتب جلبي
على وجه الدقة، يصف أوليا ما يعتقد أنه الحدود الجغرافية الأوسع لكردستان:

صورة متخيلة لأوليا جلبي

صورة متخيلة لمصطفى نعيمة









%20inspired%20by%20a%20histor.webp)

تغيير «طبيعة» الكرد وصورتهم
بمرور الزمن أصبح المؤرخون العثمانيون والبيروقراطيون والشعراء وعلماء الدين أكثر وعيًا بوجود منطقة كردستان علنًا، وكذلك المجتمعات الكردية المنتشرة في جميع أنحاء الأناضول والعراق والشام. لذلك ليس من قبيل المصادفة أن يزداد عدد الإشارات إلى الكرد في المصادر العثمانية بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، حيث اسْتُبْدِلَت الإشارات العامة في نهاية الأمر بإشارات أكثر تحديدًا. ومع ذلك فإن هذه الإشارات لا تزال انتقائية من حيث إن الكرد يُذْكَرُون على نحو متكرر أكثر فيما يتعلق بالصراع، أي عند ظهور تمرد أو حادثة تهتم بها الحكومة العثمانية. وعلى هذا النحو، يبدأ الكرد في أن يصبحوا مرتبطين في مخيلة المنطقة بالعنف بدلاً من ارتباطهم بشعب يعيش في مناطق معينة في الإمبراطورية.
في هذه الفترة، القرن التاسع عشر، انهارت الإمارات الكردية وتقوضت أساليب الحياة التقليدية تباعاً مع تزايد المركزية في الدولة العثمانية نتيجة الـ«تنظيمات».
إذاً، لم تبق حدود كردستان وعاصمتها على حالها عبر القرون. فقد كان يُنظر إلى «بدليس» على أنها مركز الثقافة والسياسة والاقتصاد الكُردي في القرن السادس عشر، بسبب قوتها الأدبية والسياسية، وحلّت محلّها مدينة «سِليماني» (السليمانية) في القرن التاسع عشر. إن ما كان يدل على كردستان ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالقوى المحلية التي حكمت المناطق التي عاش فيها الكرد؛ لأن هذه القوى، مثل العثمانيين، هي التي حددت في النهاية ما يشكل كردستان. ومنذ القرن التاسع عشر فصاعدًا، عندما أصبح الكرد تابعين كوحدات إدارية أو مدن حدودية، بدأ العثمانيون يشيرون إلى «كردستان» كأرض بعيدة عن مركز الإمبراطورية. وهكذا أُبْعِد الكرد رمزيًا من المخيال العثماني، وظل وضعهم داخل الإمبراطورية يزداد سوءًا بمرور الوقت.
(1). Atmaca, Metin. 2022. “Land of the Kurds” or “Land of the Rocks”? Changing Perceptions of Kurdistan in Ottoman and European Sources.” Kurds in Dark Times.
(2). Kafadar, Cemal. 2007. “A Rome of One’s Own: Reflections on Cultural Geography and Identity in the Lands of Rum.” Muqarnas 24:7–25.
(3). راجع رقم (1)
(4). James, Boris. 2009. “The tribal territory of the Kurds through Arabic medieval historiography.”
(5). Cagaptay, Soner. 2007. “Secularism and Foreign Policy in Turkey.” The Washington Institute.
(6). المرجع السابق
(7). راجع رقم (1)
(8). Tezcan, Baki. 2000. “The Development of the Use of ‘Kurdistan’ as a Geographical Description and the Incorporation of This Region into the Ottoman Em-pire in the 16th Century.” In The Great Ottoman-Turkish Civilisation, vol. 3, edited by Kemal Çiçek, 540–53. Ankara: Yeni Türkiye.
(9). Dursteler, Eric R. 2012. “Infidel Foods: Food and Identity in Early Modern Ottoman Travel Literature.” THE JOURNAL OF OTTOMAN STUDIES.
(10). Dehqan, Mustafa –Genç, Vural. 2018. “Kurds as spies: Information-gathering on the 16th-century Ottoman–Safavid frontier.” Acta Orientalia.
(11). Yamaguchi, Akihiko. 2012. “Shāh Tahmāsp’s Kurdish Policy.”
(12). Matthee, Rudolph (Rudi). 2003. “The Safavid-Ottoman Frontier: Iraq-i Arab as Seen by the Safavids.”
(13). Fuccaro , Nelida. 2011. The Ottoman Frontier in Kurdistan in the Sixteenth and Seventeenth Centuries.
(14). Ateş, Sabri. 2013. Ottoman–Iranian Borderlands: Making a Boundary, 1843–1914. New York: Cambridge Univ. Press.
(15). O’Shea, Maria Theresa. 2012. Trapped between the Map and Reality: Geography and Perceptions of Kurdistan. New York: Routledge.
(16). راجع رقم (14)
(17). Barkan, Ömer Lütfi. 1953–54. “H. 933–934 (M. 1527–1528) Malî yılına ait bir bütçe örneği.” İstanbul Üniversitesi İktisat Fakültesi mecmuası 14, no. 5: 251–329.
(18). Özcoşar , İbrahim. “Town and Tribe: The Conflict Between Aşiret (tribe) and Eşraf (nobility) in Ottoman Diyarbekir (1891-1909).”
(19). Atmaca , Metin. 2017. Three Stages of Political Transformation in the 19th century Ottoman Kurdistan.
(20). Kafadar, Cemal. 2007. “A Rome of One’s Own: Reflections on Cultural Geography and Identity in the Lands of Rum.” Muqarnas 24:7–25.
(21). Mcdowall, David. 2020. A Modern History of the Kurds. Fourth Edition.
22. Gümüş, Ercan. 2006. XVI. Yüzyildan XIX. Yüzyila Kadar Mardin Idaresinde Milli Aşireti ve Aşiretin Nüfuz Mücadeleleri. 1st International Symposium of Mardin History Papers.
23. Gökalp, Ziya. 1977. Kürt Aşiretleri Hakkında İçtimai Tetkikler. P. 60. 61.
24. Winter, Stefan. 2006. The Other Nahdah: The Bedirxans, the Millis, and the Tribal Roots of Kurdish Nationalism in Syria. Oriente Moderno 86, 461-474.
25. راجع المصدر السابق
26. Gümüş, Ercan. 2023. Milli Kalash (Keleş) Abdi Dynasty in the Ottoman Ayan Period. s. 284-313.DOI: 10.19059/mukaddime.1352532.
27. Orhonlu, Cengiz. 1987. Osmanlı İmparatorluğunda Aşiretlerin İskânı, İstanbul, P. 39–47.
28. Gümüş, Ercan 2019. Devlet ve Asi 18. Yüzyil Ortalarinda Osmanli Diyarbekiri'nde Eşkiyalik. (لمزيد من التعمق حول تاريخ قبيلة المِلّان)
29. أحمد وصفي زكريا، عشائر الشام، المجلد الثاني، ص 614
30. المرجع السابق، ص 636
31. Gümüş, Ercan. 2006. XVI. Yüzyildan XIX. Yüzyila Kadar Mardin Idaresinde Milli Aşireti ve Aşiretin Nüfuz Mücadeleleri. 1st International Symposium of Mardin History Papers.
32. Winter, Stefan. 2006. The Other Nahdah: The Bedirxans, the Millis, and the Tribal Roots of Kurdish Nationalism in Syria. Oriente Moderno 86, 461-474.
33. المرجع السابق
(33). Schofield, Richard. 2008. “Narrowing the Frontier: Mid–Nineteenth Century Efforts to Delimit and Map the Perso-Ottoman Border.” In War and Peace in Qajar Persia: Implications Past and Present, edited by Roxane Farman-- farmaian, 149–73. New York: Routledge.
المصادر والمراجع:
12.5.21
الكتابة تجعلك إنساناً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكاتب يستخدم كل شيء. يستخدم خياله، وغريزته، وعقله، وحواسه، وخبراته، وعلاقاته، وكلماته، وكل قصة تشرّبها منذ طفولته. قد تكون الكتابة عندك مهنة أو هواية أو ربما طموحاً. ولا يهم الطريق الذي تختاره، فبكل الأحوال الكتابة ستجعلك تعرف أكثر وتشعر أكثر. الكتابة ستعظِّم الإنسان بداخلك وتكثّفه.

22.4.21
البساطة مفتاح الصحافة الجيدة، لكن ليس دائماً
رشاد عبد القادر
بقلم:
الكلمة البسيطة والجملة القصيرة والتركيب اللغوي الواضح لا غنى عنها في الموضوعات المعقدة والمبهمة والغريبة، لجعلها مفهومة بل و"مألوفة" عبر قوة الشرح. ولا أريد التحدث عنها اليوم. ما يأسرني أكثر أن الصحافي الجيد يستطيع أيضاً أن يجعلَ البسيطَ «معقداً»، ويترك أثراً جيداً لدى القارئ.

20.4.21
علامات الترقيم.. إيضاح وإثارة
رشاد عبد القادر
بقلم:
أما وقد تحدثتُ عن الجَوْر الذي لحق بـ"الجملة الطويلة" وما أثاره من "غيرة" المدافعين عن ميراث استخدام الجملة القصيرة في الراديو أو التلفزيون، أجدها فرصة مناسبة لتناول علامات الترقيم التي ترسم بداية الجملة ونهايتها وتضبط إيقاعها ومساحتها، وكثيراً ما يُساء فهمها واستخدامها.
